728 x 90

قراءة في أحداث النيجر والموقف الليبي

قراءة في أحداث النيجر والموقف الليبي

يوسف لطفي

مقدمة:
أثار انقلاب نيامي بقيادة آمر الحرس الرئاسي “عمر عبد الرحمن تشياني” والذي أطاح بالرئيس المنتخب “محمد بوعزوم” أواخر الشهر الماضي، تخوف وتوجس العديد من الأطراف الدولية والإقليمية، وذلك على خلفية التطورات التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الماضية عقب التمدد الروسي على حساب المصالح الغربية، ولما تمثله النيجر من أهمية جيوسياسية وأمنية لحلفائها الغربيين وعلى رأسهم الولايات المتحدة وفرنسا.

تأتي الأحداث في النيجر بعد سلسلة من الانقلابات والاضطرابات الأمنية عصفت بدول الساحل والصحراء وعدد من دول غرب أفريقيا، حيث شهدت المنطقة 5 انقلابات عسكرية خلال ثلاث سنوات 2020-2023 في كل من: السودان، تشاد، مالي، بروكينا فاسو، غينيا بيساو.

أدت الانقلابات وما تبعها من نزاعات عسكرية إلى تدهور حاد في الأوضاع الأمنية في المنطقة والذي انعكس بدوره على مقاربة الأطراف الدولية وقدرتها على التأثير، فموجة الانقلابات في دول غرب إفريقيا أدت إلى تراجع النفوذ الفرنسي في مواطن نفوذ تاريخية لصالح فاعلين دوليين جدد، تأتي على رأسهم واشنطن بقاعدتها الجوية الضخمة المؤسسة حديثا في النيجر عام 2016، وموسكو التي أصبحت اللاعب الأكثر نشاطا على الساحة الأفريقية عبر الدور الذي تلعبه مجموعة فاغنر.

خيارات محدودة:
تملك النيجر أهمية استراتيجية استثنائية، حيث يجعلها موقعا الجغرافي المميز وحدودها المشتركة مع 7 دول، عقدة مركزية تربط بين شمال، وسط، وغرب أفريقيا، وهو ما يجعلها شريك أمني محوري للأطراف الدولية المنخرطة في المشهد الأفريقي وعلى رأسها باريس وواشنطن، حيث تملك الأولى 4 قواعد عسكرية فيها أهمها (قاعدة 101) التي تستضيف 1500 جندي فرنسي، في حين تملك الولايات المتحدة قاعدة مركزية كبيرة في أغاديز (قاعدة 201) بالإضافة لمنشأة عسكرية أخرى، إذ تعتبر النيجر مركز قوات الناتو في منطقة الساحل ونقطة انطلاق مركزية للعمليات العسكرية والأمنية التي تجريها باريس وواشنطن في المنطقة لمحاربة الجماعات الجهادية المسلحة.
في التعاطي مع الانقلاب وقيادته تبنت واشنطن موقفا أقل حدة وأكثر اتزانا من باريس، حيث ترفض الإدارة الأمريكية وصف ما جرى بالانقلاب في بياناتها وتصريحاتها الرسمية ودعت للتفاوض وحل الخلاف عبر الدبلوماسية، كما أعلنت واشنطن عن تعيين ” كاثلين فيتزجيبون” لتكون سفيرة الولايات المتحدة التالية في النيجر وهو ما اعتبرته باريس شرعنة للانقلاب.
في المقابل ترأس ماكرون مجلسا دفاعيا فور حدوث الانقلاب وأعلن عن مهلة –انقضت- للمجلس العسكري مدتها ثلاث أيام، وتدفع باريس باتجاه تدخل عسكري إقليمي من قبل دول “الإيكواس” وتنفيذ عقوبات شديدة من قبل الأطراف الدولية والإقليمية.
رغم حماس باريس الشديد للعقوبات والتدخل العسكري إلا أن خياراتها تبدو محدودة جدا، فمبدأ التدخل العسكري مرفوض من قبل أطراف دولية (الولايات المتحدة وإيطاليا) تملك مصالح استراتيجية في النيجر، وأخرى إقليمية أهمها الجزائر التي تخشى عدوى الاضطرابات التي تجتاح المنطقة خصوصا بعد اندلاع الاشتباكات بين حركات تحرير أزواد والجيش المالي في منطقة “بير” شمال مالي بالقرب من الحدود الجزائرية 12 أغسطس الماضي، بعد جمود دام لسنوات عقب اتفاق السلام الذي رعته الجزائر.
كما تعاني عدد من دول الإيكواس الموكل لها التدخل العسكري من اضطرابات أمنية وأزمات داخلية وعلى رأسها السنغال وسيراليون، في حين صوت برلمان نيجيريا -التي تعاني من اضطرابات داخلية وأزمة اقتصادية ومعيشية- ضد التدخل العسكري في النيجر، في المقابل أعلن الاتحاد الأفريقي عن رفضه القاطع لأي تدخل عسكري في النيجر، وحذرت حكومتا واغادوغو وباماكو من أي تدخل عسكري، معتبرتين حدوث ذلك إعلان حرب عليهما، كما أعلنت غينيا كوناكري عدم التزامها بالعقوبات التي فرضتها مجموعة إيكواس على النيجر.
تشير هذه المعطيات بالإضافة لاعتبارات تكتيكية ولوجستية تتعلق بالقدرة على جمع القوات المطلوبة وتجاوز العقبات الحدودية والتهديد الأمني للجماعات الجهادية إلى أن فرص حدوث التدخل العسكري تبدو ضعيفة جدا.

تداعيات محتملة:
تجاور النيجر ثلاث دول محورية في ملفي أمن الطاقة والهجرة، ما يجعلها عقدة أمنية مهمة في المنطقة، فالجارة الجنوبية “نيجيريا” هي أكبر منتج للنفط في القارة وثان أكبر مصدر للغاز بعد الجزائر وهي تمتلك خزان بشري ضخم يقدر بـ 206 مليون تقريبا، ما يجعلها ربما التهديد الأكبر لاستقرار أسواق الطاقة الدولية وتدفقات الهجرة، أما جيران الشمال، أولهم الجزائر التي تعد ثالث أكبر مصدر للغاز لأوروبا وأكبر منتج له في أفريقيا، ثم ليبيا صاحبة أكبر احتياطي نفطي في القارة وثان أكبر مصدر له -في الظروف الطبيعية- فهي تملك أهمية استثنائية لأسواق الطاقة الأوروبية خصوصا في ظل الضائقة التي تواجهها على خلفية تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، كما تمثل هذه الدول المتوسطية المعبر الأساسي لمعظم مشاريع نقل الطاقة الكبرى، وموجات الهجرة الأفريقية.
تداعيات اضطراب النيجر لا يضع أوروبا في مواجهة خطر انقطاع إمدادات الطاقة، تدفقات الهجرة، وفشل استثماراتها الأفريقية فقط، وإنما يضعها في مواجهة نفوذ موسكو المتمدد، وهو ما يشكل خطرا استراتيجيا كبيرا على العواصم الأوروبية.
يمتد انتشار قوات الفاغنر إلى كل من: مالي، بوركينا فاسو، جمهورية إفريقيا الوسطى والسودان، كما تستخدم المجموعة ليبيا كنقطة انطلاق لعملياتها في إفريقيا، وهي توفر خدمات أمنية للأنظمة والحكومات الأفريقية مقابل الحق في استخراج الموارد، ما يجعل انقلاب النيجر فرصة ذهبية بالنظر إلى مخزون اليورانيوم الذي تتمتع به البلاد (5% من احتياطي العالم و7% من الإنتاج).
في المقابل لا تبدو الولايات المتحدة متخوفة من دور روسيا أو الفاغنر في أحداث النيجر كما أعلن المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي ” آدم هودج”، ما يشير إلى وجود تباين بين الرؤية\المقاربة الأوروبية والأمريكية للأزمة وللوضع الأفريقي، كما صرحت المتحدثة باسم البنتاغون “صابرينا ساني” أنهم “غير قلقين، ومستمرون في عملياتهم العسكرية”. على عكس أوروبا المنشغلة بإمدادات الطاقة وقوارب الهجرة، فإن مقاربة واشنطن معنية بمواجهة تمدد الجماعات الجهادية غرب أفريقيا وإنفاذ أجندتها الأمنية بالدرجة الأولى.
هدوء واشنطن أمام موجة الانقلابات الأفريقية قد تفسره التقارير الاستقصائية التي تكشف عن علاقات واشنطن العميقة بعدد من الأجهزة الأمنية والعسكرية في الدول الأفريقية التي خاضت انقلابات السنوات الماضية، حيث يفيد تقرير لصحيفة الانترسبت أن عدد من الضباط الأفارقة الذين دربتهم الولايات المتحدة انخرطوا في 10 انقلابات على الأقل في دول غرب أفريقيا منذ عام 2008، وفي النيجر تملك الولايات المتحدة علاقة قوية بأحد قيادات الانقلاب الذي ترأس وحدة القوات الخاصة سابقا ويشغر منصب رئيس الأركان حاليا الجنرال “موسى بارمو”.

ليبيا بين الاضطراب الحدودي والدبلوماسي:
تعاني ليبيا من جنوب حدودي مضطرب ساهم في مفاقمة أزمتها الأمنية الداخلية، فاضطرابات تشاد والسودان وما ترتب عليها من نشاط حركات التمرد وارتفاع معدلات نشاطات التهريب والهجرة غير النظامية ساهمت بشكل مباشر في تغذية حالة النزاع القائم وتردي الظروف المعيشية في البلاد وارتفاع معدلات الجريمة، حيث صار الجنوب الليبي محطة انطلاق لعمليات حركات التمرد التشادية والمجموعات المسلحة السودانية مقابل دعم قوات الكرامة والميليشيات المحلية عسكريا ولوجستيا، كما تحول عدد من مدن ومناطق الجنوب إلى بؤر استيطانية لعدد من هذه الميليشيات التي تمتهن تهريب المهاجرين، المحروقات، والسلاح كمصدر أساسي للدخل.
تحمل أزمة النيجر في طياتها تهديد أكبر -في حال تفاقم الوضع الإنساني- والمعيشي بتحويل عمليات الهجرة غير النظامية إلى موجات نزوح كبرى نحو الجنوب الليبي، ما يضع البلاد أمام تحدي ديموغرافي وأمني خطير قد يكون له أثر كبير على الأوضاع السياسية والاقتصادية في البلاد والاقليم ككل.
على الصعيد السياسي ينذر غياب قراءة سياسية وأمنية دقيقة للوضع في النيجر وللمتغيرات الجيوسياسية الكبرى من طرف حكومة الوحدة الوطنية والأجهزة المعنية بالمسألة الأمنية وعلى رأسها جهاز المخابرات العامة باضطراب دبلوماسي ربما ينجم عن أضرار سياسية وأمنية فادحة، كما قد يفتح الإخفاق الأمني والدبلوماسي المجال لخليفة حفتر لاستغلال هذا التخبط لفتح قنوات تواصل وتعاون مع السلطة الجديدة.
فضلا عن التحديات الأمنية والسياسية التي تفرضها موجة الانقلابات العسكرية على الحدود الجنوبية، فإن الأزمة المعيشية التي قد تعصف بمناطق الجنوب الليبي في حال تفاقمت الأزمة الإنسانية في النيجر ومحيطها، ستضطر طرابلس لمعالجة الملفات الإنسانية والأمنية الملحة، والتي قد تؤدي إلى شلل حكومي وأزمة اقتصادية في حال عدم وجود سياسات واضحة وتخطيط مسبق.
تتطلب المتغيرات المتسارعة التي تشهدها منطقة الساحل والصحراء دراسة جادة للمخاطر المحدقة والمتوقعة وللواقع الجيوسياسي المتغير، وذلك لغرض تصميم سياسات عامة ومسارات دبلوماسية تهدف لمقاربة هذه القضايا مقاربة واقعية وفق الأدوات المتاحة ولتعمل كدليل للسلطات السياسية والأمنية لتتمكن من تبني مواقف بناءة تخدم المصلحة الوطنية، بدلا عن الإجراءات الارتجالية والمواقف غير المدروسة التي ستكلف البلاد الكثير.

 

 

 

 

إقرأ أيضًا

أحداث ومناشط قادمة

الأحدث

الأعلى مشاهدة

من معرض الصور