728 x 90

شيخ النساخين: مصطفى بن القايد قاسم آغا قرجي الملقب بالكاتب

م.عبد المطلب أبو سالم

قد يستغرب القارئ إذا علم أن العهد القرمانلي (1123-1251هـ / 1711-1835م)، شهد حركة ثقافية وفكرية وعلمية مرموقة بمقياس ذلك الزمن، إذ لم تنل نصيبها من الدراسة والبحث المستفيض المتعمق بكل جوابنه، فهي نتاج تغيير وإنعكاس لحالة من الشعور بالانتماء الوطني وما صاحبها من تعريب لدواوين الحكم في ذلك الزمن، وأحد أبرز أقطاب هذه الحركة هو شيخ النساخين الذي ورد إسمه في سجلات المحكمة الشرعية بأنه مصطفى بن المرحوم القاسم آغا المصري .  بينما ورد اسمه في أحد الكتب التي نسخها بخط يده “الناسخ مصطفى خوجة بن قاسم بن عبدالله قرجي النسب”، فعائلة قرجي الطرابلسية المعروفة تُنسب لإقليم جورجيا بالقوقاز.

تعلم وترعرع على يد شيوخ عصره آنداك  بالمحروسة طرابلس من أمثال:  الفقيه الشاعر سالم  بن محمد بن  الفطيسي والفقيه عبدالسلام بن ناصر والشيخ محمد الكانوي البرناوي، في النصف الاول من القرن الثامن عشر، ولم يكتف بهذا القدر من التحصيل المعرفي بل ثقف نفسه عبر إقتناء الكتب، ظهر نبوغه المبكر وميوله الأدبية والفكرية حتى لقب بالخوجه وتعني المعلم والكاتب في اللغة التركية، ففي حكم علي باشا القرمانلي (1754-1793) أسندت إليه وظيفة  رئاسة  ديوان الإنشاء أي كبير الكُتاب (باش كاتب) لما يحظى  به من مركز اجتماعي عال بفضل تفوقه الأدبي والسياسي، وقد وصف نفسه في إحدى وقفيات كتبه بتاريخ (1184هـ/1771م) بأنه “صاحب إنشاء الدولة العلية العلوية وظهير المملكة القرمانلية” .

أستطاع مصطفى الكاتب أن يجمع ثروة هائلة عززت من تحقيق أمانيه الثقافية، فقام بإنفاق جزء منها في بناء مسجده الشهير بزنقة الريح بالواجهة البحرية وألحق به مكتبته ومدرسته عام 1183 هـ/ 1770م، والتي عين لها الفقيه الإمام سيدي محمد بن عبد الكريم مكرم شيخاً للمدرسة، عمل على نسخ العشرات من الكتب وإهداءها لكبار الزوار والشخصيات الأجنبية، فهو يعتبر بذلك أول من يفتتح مكتبة خاصة في بلادنا، ومؤسسة لنشر وطباعة الكتب بمفهومنا اليوم.

تبين من خلال إمضاء اسمه كاملاً على ما ينسخه أن والده كان ذا شأن كبير بالدولة، فقد ذكره بأسم القايد قاسم وتعني حاكم منطقة (ربما قايد الساحل والمنشية أو جنزور أو تاجوراء لا نعلم فهي الأقرب)، وذكره ايضا بصفة القاسم آغا، والتي تعني كبير أو أمير أو طاعن في السن، وورد أيضا قاسم كاهية وتعني (كيخيا أي مستشار الباشا الخاص). ومثلما كان والده قايد، كذلك جرى الأمر لإبنه عموره حيث تقلد المناصب الرفيعة فعُين (قايد لساحل المنشية)، فهنا نطرح السؤال، هل سكنت العائلة أول الأمر الساحل والمنشية؟ وهل تربطها صلة قربى بعائلة قاسم آغا التي تسكن الآن محلة المنصورة الواقعة بين الهنشير والعمروس؟ لا نعلم الإجابة الشافية القطعية بذلك. وتبقى الإجابة رهينة البحث في سيره العائلة وجذورها بطرابلس وضواحيها، فقد وصفته مس تولي الانجليزية شقيقة القنصل الإنجليزي بطرابلس ريتشارد تولي (1783-1793) في رسائلها بأنه الوزير الشريف، فهو أحد أعضاء مجلس الحكم الموقعين على أول معاهدة للسلم والتجارة مع المملكة الاسبانية في شوال 1198هـ/ سبتمبر1784م. حيث كان يلقبه القناصل بصفته الوزير الأول (المنسترو متاع القناصل والنصارى) وهو منصب يعادل في يومنا هذا وزير الخارجية،  فيقدمه المؤرخ الفرنسي وقنصل فرنسا بطرابلس شارل فيرو على أنه (رئيس الوزراء) او كبير الأمناء لعلي باشا القرمانلي وهو نفس المنصب الذي تقلده محمد الدغيس في فترة  حكم يوسف باشا القرمانلي.

رغم مكانته المرموقة التي يحظى بها بديوان الحكم فإن مصطفى تفرغ للشؤون الثقافية ومخالطة أصحاب العلوم والنهل من مداركهم سواء زواراً للمحروسة أو مقيمين، فقد جاء في مقدمة وقفية مصطفى الكاتب “بعون الله تعالى وتيسيره محكمة البنيان مشيدة الأرجاء والأركان بالغة الغاية لإقامة الصلوات وتعليم العلم بأنواعه وفنونه من المنقول والمعقولات ”   فكان من أشهر النساخين بمكتبته العامرة هو الناسخ أحمد بن طابون، ونسخ كتاب “أوضح الاشارات فيمن تولى القاهرة من الوزراء والباشوات” والنسخة موجودة في جامعة ييل بالولايات المتحدة، انتشرت الكتب التي نسخها في اصقاع اوروبا مثل ما نسخه عن “تاريخ غدامس” وهو ضمن ممتلكات  المكتبة الوطنية بباريس،  كما نالت المكتبة الوطنية في مالطا نصيبها فهي  تضم دراسة عنونها صديقه الفرنسي فرومان باسم: “مختصر تاريخ طرابلس البربرية”، وهي مستقاة من مخطوطات يملكها مصطفى الكاتب أعارها إياه، كما أن المستشرق الألماني كوتلوب كراوس ذكر أنه تحصل على نسخة منها وهي ضمن مقتنيات جمعية برلين الجغرافية

أوقف مكتبته التي تضم قرابة ثلاثمائة مخطوط ومجموعة ضخمة من الكتب في مختلف العلوم والمعارف لمدرسته، والتي آلت لتصبح نواة مكتبة الاوقاف لاحقاَ، وعرفت بمكتبة الكاتب
زاره الرحالة المغربي محمد بن عبدالسلام الناصري في رحلته الأولى سنة ( 1196هـ/ 1781م)  حيث قال : “محط رحال أهل الدين والخير في زمانه، كاتب الجناب العلي الشأن سراج مملكة ال قرمان، لا زال في عز وأمان، بجاه المختار من مضر وعدنان، سيدنا مصطفى بن القاسم المصري خوجه وبه عرف، الحنفي المذهب وبه وصف، كان من سيرته الحميدة ومآثره المجيدة أنه ابتنى جامعاً ومدرسة، وأوقف عليها كتباً جمة”، وقد أهدى مصطفى خوجه لهذا العالم المغربي تسعة مخطوطات من خيار الكتب الرائجة آنداك، وهذه عادته مع كل من يمر به أو يقصده من الرحالة، وهذه شهادة على النشاط الفكري في المحروسة طرابلس التي سبق فيها القاهرة التي تأسست بها مكتبة محمد بك أبي الذهب سنة (1188هـ / 1785م).

في العام (1207 هـ / 1793 م) اعتزل السياسة أثناء إستيلاء  علي برغل على حكم طرابلس وألف وحقق بعض المخطوطات مثل “تاريخ فزان” وكتابه المفقود “المسائل المهمة والفوائد الجمة“، وقد خص وقفيته ثروات هائلة من العقارات والبساتين وفي مناطق متفرقة من الإيالة.  جانب الكثير من المؤرخين الصواب في تحديد سنة وفاته فيذهب الأنصاري في نفحات النسرين أنه  توفي في عام 1213 هـ/1799م، وهو ما أيده ونقله كل من الأستاذ علي المصراتي في كتابه “مؤرخون من ليبيا“، وما نشره الأستاذ حبيب الحسناوي في تحقيق مخطوط “تاريخ فزان” الذي جمع مادته مصطفى خوجه بنفسه، وصوب الأستاذ الفاضل عمار جحيدر ذلك الخطأ في كتابه “الحياة الفكرية في ليبيا في العهد القرمانلي“، مما وجده ضمن مخطوطات التي أوقفها الناسخ مصطفى خوجه على مدرسة القايد عمورة  بجنزور مخطوط بعنوان “شرح البردة” بتاريخ 17 ذي القعدة 1215 هـ/1 ابريل 1801م، وورد  ذكره في  وثيقة عثر عليها في سجلات المحكمة الشرعية تخص إبنه عموره  بتاريخ 9 ذي القعدة 1217 هـ/1 مارس  1803م ورد فيها: “الأجل الأكمل سيدي عمورة ابن المرحوم سيدي الكاتب مصطفى خوجه “،  ومما لا  لابس فيه قطعاً أن وفاته وقعت  بين عامي (1215-1217هـ/1801-1803م)1 ، عاش مصطفى خوجه الكاتب مؤمنا بنشر المعرفة لأبناء بلده فكان صاحب مشروع فكري ثقافي يسهم في نهضة البلاد وانتشال أبناءها من براثن الجهل والتخلف وأستحق المديح والثناء من شاعرنا المعاصر له محمد بن العربي، وفي الختام نناشد السلطات بأن تحتفي به بما يليق بأعماله الجليلة، عبر إنتاج فلم وثائقي عنه وإطلاق اسمه على إحدى المؤسسات الثقافية بالبلاد.

 

  1. وقفية مصطفى الكاتب ، سجلات محكمة طرابلس الشرعية ، التي نقلت من دار المحفوظات التاريخية بقلعة السراي الحمراء
  2. جحيدر ، الحياة الفكرية في ليبيا في العهد القرمانلي ( 1123- 1251هـ / 1711-1835 م ) ، ص 79 .
  3. الأنصاري ، المنهل العذب ، مكتبة الفرجاني ، ص 312 .
  4. مكتبة الأوقاف ، المجموع 882 .
  5. مس تولي ، عشر سنوات في بلاط طرابلس ، دار الفرجاني
  6. حبيب الحسناوي، تحقيق كتاب تاريخ فزان لمصطفى خوجة ، منشورات مركزجهاد الليبين ، طرابلس ،1979  ، ص 22
  7. المصدر السابق ، ص 27
  8. جحيدر ، الحياة الفكرية في ليبيا في العهد القرمانلي ( 1123- 1251هـ / 1711-1835 م ) ، ص 78

إقرأ أيضًا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *

أحداث ومناشط قادمة

الأحدث

الأعلى مشاهدة

من معرض الصور