728 x 90

الحق والحقيقة بين الفلسفة والسياق القرآني

الحق والحقيقة بين الفلسفة والسياق القرآني

الحق والحقيقة بين الفلسفة والسياق القرآني

 

بقلم: نزار كريكش.

 

عندما قدم جاليليو نظرته للكون والشمس ومركزيتها، كذبت الكنيسة وأصر القساوسة على أن ذلك مخالف للكتاب المقدس الذي اعتقدوا من خلال قراءتهم أن الأرض هي مركز الكون؛ لم يكن جاليليو معاديا للكنيسة ولا يريد أن يتحداها حتى أنه طلب من رجل الدين أن ينظر في التلسكوب بنفسه ليعرف ما لذي يتحدث عنه لكن رفض تكذيب معتقده. بعد ذلك، خشي كثيرون من إبداء آرائهم، وبدأت مدارس وملتقيات تحاول أن تتدرج في عرض الحقائق الجديدة على الكنيسة، مثل ما حدث مع ديكارت ومحاولته الفصل بين الروح والعقل، وإهمال الأولى لحساب الثانية. كانت مدرسة باريس أحد المدارس التي تسعى للتدرج في إخراج النظريات الجديدة للعلن.

 

كان الخلاف الظاهر هو أن الأحاسيس التي نستقيها هي التي نصنع منها أفكارنا، وهؤلاء هم الذين ينفون فكرة ديكارت عن وجود نماذج مسبقة يولد بها الإنسان هي التي تحيط بعقلة وتجعله يضع حدوداً لتجاربه. لكن مدرسة أخرى نشأت في ادنبرج في اسكوتلندا كانت ترى أن التجارب التي نعيشها (الصور، الأحداث….) هي التي نصنع من طرق تفكيرناً. لم يمنع هذا الخلاف من انتشار المنهج العلمي المعرفي للاكتشاف والبحث، لكنه تطور بعد ذلك لفلسفة لا تؤمن سوى بالرياضة والكشف العلمي التجريبي، وهذه تسمى دائرة فينا ومنها نشأ المنهج العلمي في القرن العشرين.

بدت الحقيقية في كل مبحث علمي يحدد المفاهيم ويحسب الأرقام، حتى المنطق صار جزءاً من الرياضة على يد برتراند راسل، كما أن انتقاداً لاذعاً لفلسفة القرن التاسع عشر أرسته هذه الدائرة والتي منها كان أنيتشاين وثيودور هرتزل وماكس بلانك وآخرون وضع البروتوكول العلمي الذي يدرس به الطلبة في كل جامعات العالم. في الستينات من القرن العشرين، وبعد فاجعة الحرب العالمية الثانية، لم يكن هذا المنهج يقنع كثيرين، ببساطة لأنه لم ينجح في أن يكون العالم مكاناً افضل كما وعدت كل هذه الفلسفات. ثار الطلبة في العالم خاصة في فرنسا، وبدأوا يبحثون عن فلسفة جديدة، كتب توماس كون كتابه بنية الثورات العلمية، والذي شكك في وجود حقيقة علمية دائمة وثابتة، وأن الحقائق العلمية قد تعجز عن تفسير بعض الظواهر مما يضطر العلماء لتغيير نماذجهم المعرفية ونظرياتهم التفسيرية، انتشر الكتاب بين شباب الجامعات، وفهموا منه كما قال أحد الطلبة لتوماس كون: أنت قلت ان الحقيقة العلمية ليست ثابتة قال: نعم، قال الطالب إذا لسنا بحاجة لهم.

جاءت بعد ذلك فلسفة ما بعد الحداثة وكتب ميشيل فوكو نظرته عن السلطة وأن هناك تجاوز بين المعرفة والسلطة، وهكذا بدأ التشكيك في كثير من الحقائق وتحولت الحقيقة إلى شيء نسبي يمكن أن يخضع لكثير من الإكراهات والظروف السياسية والاقتصادية. الحرب الباردة كانت نموذجاً صارخاً للتأثير السياسة في إدراك الحقيقة لأن الحرب النفسية والإعلامية بين القطبين الروسي والأمريكي استمر لعقود من الزمن يبني حقائق علمية تدعم الرؤى السياسية لهاتين القوتين، إبفان بافلوف صاحب نظرية ردود الفعل السلوكية والتي اشتهرت في تجربة الكلب الذي يدق يربط بين قطة اللحم وصوت الجرب، بافلوف هذا كان أحد الأذرع التي حاول ستالين استخدامها للسيطرة على المجتمع من خلال دراسة ردود أفعاله والتحكم باستجابتهم وفقاً للمحفزات التي يختبرهم بها. في الولايات المتحدة كانت المدرسة السلوكية تخطو نفس الخطوات بدعم من مؤسسة فورد لإثبات أنه بالإمكان معرفة ردود الأفعال والتحكم بها كما في نظرية اللعبة في العلاقات الدولية.

 هذا السياق جعل الفلسفة والسياسة قرينان لا يفترقان، لكن سقوط الاتحاد السوفياتي أحدث مالم يكن في الحسبان، حين بدأ بأن كل مداركنا لا تنشأ من العقلانية والتخطيط الدقيق الذي كانت الحداثة تدعيه، وهذا بعد ثورة الإدراك التي بينت تأثير العاطفة والأحكام المسبقة على صناعة القرار عن هو سائد الآن في هذه العلوم، فهناك سرديات وخلفيات وتجارب وعواطف وطموحات وان الثقافة والأهواء لها مكانها الأكبر في صناعة السياسة والتحولات الجيواستراتيجية.

 

لقد عدنا لما كان عليه العالم قبل ذلك، يتواضع الإنسان ولا يدرك الحقيقية كاملة، كان الحق كما عند الجميع جزء من الأخلاق وأنه لا فاصل بين سلوك الإنسان والأخلاق التي يحملها، وأن الحقيقة تكمن في التخلي عن تلك الأهواء والتحرك وفقاً لموازين العدل والصدق الأخلاق. عودة الأخلاق تلك، عبرت عنها فيلسوفة الأخلاق الأسكتلندية ألسادير ماركنتيل في كتابها ما بعد الفضيلة التي شرحت فيه كيف فشلت هذه الفلسفات في صناعة نموذج أخلاقي كالذي عرفته البشرية في العصر المحوري أو الثورات الأخلاقية التي احدثتها الأديان.

في السياق القرآني سنجد أن السلوك يجب ان يبنى على وضوح وهداية كما وبينت سورة النور، وقارنت بين الهداية وبين السراب والظلمات التي يعيشها السلوك المرتبط بالأهواء والتسرع والخلفيات الحاكمة كالقبيلة والجهة. والغريب أن التشريع الذي سبق السياق في سورة النور، أكد حقيقة  لم تنتبه لها تلك الفلسفات وهي الفعل والعمل والإطار القانوني والتشريعي الذي يحمي الحقيقة، روي بإسكار صاحب فلسفة النقدية الواقعية يميز بين الحقيقة المطلقة التي وجدت قبل الإنسان والحق الذي يمثل الأخلاق والواقع الذي نعيشه والذي لا يمكن أن ندركه إدراكنا تاما بمعارفنا النسبية، ينتبه بأن العقلانية يجب أن تهبط لمستوى التشريع والسياسات، بمعنى أن التشريع هو الذي يحمي الأخلاق ( الحق) وهو الذي يسمح بالتنوع والتعدد المعرفي، لذا سنجد السياق في سورة النور يضع ذلك لحاجز الذي يحجز الناس عن الإشاعة والتنازع وانحدار الأخلاق، وفي هذا السياق يتحدث عن النور ووضوح الرؤية كإطار يؤكد أن كل هذه التشريعات الأخلاقية جزء من النور والقدرة على تجاوز الأهواء و الانحيازات المسبقة.

يستمر سياق سور كالفرقان والشعراء والنمل والقصص المتتالية، لبيان هذه الهداية التي تتجاوز الصراع الشخصي كما في الفرقان، والأسباب الخمسة لعدم إدراك الحقيقة في قصص سورة الشعراء كالكبر والتقليد والغرور بالقوة والترف والفاحشة لنصل بعد ذلك لتأثير هذا السلوك الشخصي على رؤية الواقع كما هي سورة النمل. فسياق السورة يبين أن الحواس لن يصل بها الإنسان للحقيقة التي يدعيها لنفسه، لأنه كما قالت تعالى (إدَّارك علمهم في الآخرة)، هذا التدارك والمحدودية هي التي يخدعنا بها البصر عن إدراك الحقيقة، إن التحولات الكبرى التي شهدها التاريخ لم نكن لتكون لولا اكتشاف حقيقة التاريخ وان الاستكبار والسلطة لا يمكنها أن تملك الحقيقة، لأنه الأخيرة مطلقة لا يصلها الإنسان مهما ادعى ذلك، وأنه وحدها العقائد الثابتة والأخلاق الراسخة والصبر على حراك المستقبل هو الذي يخضع الواقع للحق ويحرك التاريخ كما هو سياق سورة القصص. ستظل البشرية أعمالها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءاً مالم تصل لذللك المنهج الأخلاقي الذي يعبر بها من الواقع للحقيقة التي يسنح بها عمر الحضارة وترتضيها الأخلاق الإنسانية.

 

 

إقرأ أيضًا

أحداث ومناشط قادمة

الأحدث

الأعلى مشاهدة

من معرض الصور