الإنسان والذكاء الاصطناعي إلى أين؟!
بقلم: عبد العظيم الجهاني.
أريد الكتابة عن لزوم الحَذَرِ من التَّقدمات التّكنولوجية الحديثة. وهذا الموضوع مُهِمٌّ نظرًا لاسْتِحْوَاذِ الآلاتِ الحديثةِ على حياة النّاس ولم يكن للأوّلين تجربة كتجربتنا اليوم.
وليس غايةُ المقال الصَّدّ عن كُلِّ أنواعِ التكنولوجيا والتَّحْذِيرُ منها مُطلقاً بل المُرادُ إبانةُ وِجْهَة نَظَرٍ حَذِرَةٍ تُعَبِّرُ عَنْ قَلَقِ الكاتب في مدى تأثيرها وسُهولةِ قَبُولِ النَّاسِ لها.
من يحكم على نجاح الاختراع؟
قَصَّ أفلاطون في كتابه (الحوار فيدروس) حوارًا خَيَالِيًّا بين مُخترع القَلَمِ والمَلِكِ (تاموس)، حيث قَدَّمَ المخترعُ اختراعَه وادَّعى ألمعيةَ ما جاء به وزعم أنّه سَيُمَكِّنُ البَشَرَ من حفظ مَعَارِفِهِمْ. أجابه الملكُ قائلاً: (ليس من شأن المُخترعِ أن يُخبرَنا بِفَوَائِدِ اختراعِه بل على غيرِه الَّذين يَشهدون آثارَ الآلةِ الحديثةِ أن يفعلوا ذلك.” ثُمَّ أضاف الملكُ أنّ ما تظنّه خيرًا يا أيّها المَخترعُ هو في الحقيقة شرّ، لأنّ الكتابة ستُؤدِّي إلى ضَيَاعِ المعرفة لا حِفْظِهَا، إذ سيتوقّف الناسُ عن الاعتماد على ذاكرتهم، ولن تَصْدُرَ المعرفةُ من بواطنهم بل من خارجهم.
الجانب المثير من هذه القصّةِ أنّنا نجد المخترعين يكتفون بذكر الجوانب الإيجابية لابتداعاتهم، ونادرًا ما يتطرّقون آثارها الجانبيّة أو عَوَاقِبِهَا السَّلبية.
التَّغَيُّرُ الغربيّ اتّجاه الاختراع
كان الناسُ يَحذرون الاختراعَ الجديدَ، حيث كانت دلالته سلبيّة في اليُونانِ القديمة والعالم الإسلامي. فقد قال نبيّنا ﷺ: (إيّاكم ومُحْدَثَاتُ الأمور) لأنّ الدِّينَ بطبيعته مُحَافِظٌ يُريد بقاءَ الأصلِ ويَحذر من الأمور المُزَعْزعةِ للاستقرار الحادث حين تتغيّر المُجتمعاتُ بسرعة مفرطة.
والفيلسوف والمؤلّف المشهور في القرن السادس عشر الميلادي (نيكولو مِيكَافِيلِي) كان أوّلَ من وضع رؤيةً إيجابيّةً للاختراع في الفكر الغربي، ومِنه بدأ التَّحَوُّلُ الحقيقيّ في تَطَلُّعِ الغَرْبِ إلى الابتكار، حيث أصبح يرى الإبهارَ في التَّغْيِيرِ في حَدِّ ذاته بِغَضِّ النّظر عن مآلاته.
النّظر في مآلات التّكنولوجيا الحديثة
يُوجد في الفقه الإسلاميّ مَبْدَأٌ عظيمٌ يُعبّر عن التّوازن في تقييم التّغير وهو ما يُسمّى بالنّظر في العواقب، أي التّأمّل في ما يترتّب على الأفعال والسّياسات من نتائج مستقبليّة.
والذين ينصرون كُلَّ تَطَوُّرٍ تكنولوجيّ يقولون لنا إنّكم لن تستطيعوا وقف عَجَلَةَ التّقدم ولن تقدروا رَدَّ الزّمن إلى الوراء، وهذا يَفترض نقطتين خطيرتين: الأولى: أنّ التّقدم الماديّ نتائِجُهُ كُلُّهَا خَيْرٌ مطلق، وثانيًا: أنّ هذا التّقدمَ قوةٌ لا تُقاوَم، وعلينا أن نستسلم له.
وأودُّ التّنبيه أنّ في التاريخ شواهد تنقض هذين الافتراضين.
المثال الأوّل على ذلك:
وَاجَهَ اختراعُ السّيّارة رفضًا كبيرًا في المُدُنِ لإزعاجها وصخبها، ولكن مُخترعوها قالوا إنّها – بالنّظر للبيئة – أنظف وأصفى من الخُيول! والآن ننظر لدعوتهم بِتَهَكُّمٍ لِمَا نعلمه من الكارثة البيئيّة الّتي تُواجه الجنس البشريّ بسبب إنتاج ثاني أكسيد الكربون من السّيّارات، ومع ذلك فقد كان اختراع السّيّارة بِدايَةً لسلسلة من التّحوُّلات البيئيّة والاجتماعيّة غَيْرِ المُسبقة.
المثال الثاني:
في سنة 1589م حَاوَلَ مُخترعُ انجليزيّ (ويليام لي) أن يُقنع الملكةَ إليزابيث الأولى بدعم آلة الخِيَاطَةِ الّتي صَنَعَهَا، أيّده وُزراءُ الملكة وطلبوا منها أن تُسهم أموالَ التَّاجِ في إنشاء مصنعٍ لإنتاجها.
رفضت الملكةُ وقالت: “إنّي أَحنُّ إلى شعبي الفقير الذي يَقْتَاتُ من الخِيَاطَةِ، ولن أُقدِّمَ مَالاً لِدَعْمِ اختراع يُؤدّي إلى خرابهم بِحِرْمَانِهِم من العمل.”
والمثال الثالث في هذا الشأن:
بعد ما أُدخل المُسدّس الطّوِيلُ إلى اليبان في سنة 1543م، أصبح اليابانيّون من أَمْهَرِ صُنَّاعِهِ وطَوَّروا آلات حربية أخرى. ومع ذلك قام ثلاثةٌ من رؤساء العسكريّين اليابانيّين الّذين وحّدوا الإمارات المتحاربة في البلاد بِحَظْرِ استخدام السّلاح الناريّ كُلِّيًّا.
ولمدة ثلاثمائة عام، اختارت اليابانُ أن ترفضَ هذه التكنولوجيا بإرادتها. وكانت أسبابُ هذا القرار، أوّلاً: أنّهم رَأَوْا في السّلاح النّاري وسيلةً قاسيةً وغَيْرَ مشرّفةٍ للقتال، وثانيًا: أنّه جعل من المُمْكِنِ لفلاّح بسيط أن يَقْتُلَ سَامُورَايًا أمضى عشرين عامًا في إتقان فُنون القتال.
علاقة التّكنولوجيا بالأمراض النفسيّة المرتفعة حول العالم
يُعاني الإنسانُ المعاصرُ مِنْ مَرَضِ التّشتّت، مُؤديًّا إلى أزمة هَائِلَةٍ في الصّحة النفسيّة العالميّة، وأرى السّببَ الرئيسيّ هو نوعُ التكنولوجيا الّتي يتعرَّضُ لها شبابُنا ويُنشؤون في ظِلِّها.
على سبيل المثال، الولايات المتّحدة تمرُّ بأزمة مخدر (الفنتانيل) الذي يقتل نحو خمسين ألف أمريكيّ في السّنة. وقد ذكّرنا كارل ماركس عندما قال: “الدّين هو تنهيدة المضطّهد، هو قلب عالمٍ لا قلب له، مثلما هو روح وضع “شروط” بلا روحٍ، إنّه أفيون الشّعب.”
التّكنولوجيا الحديثة أصحبت أفيون الشعوب
لم يكن ماركس هنا يُهاجم الدّين بقدر ما كان يسعى لِفَهْمِ سبب حاجةِ النّاس إليه، والحاجة تعود إلى أنّ الدّينَ يُخَفِّفُ آلامَ الوُجودِ في هذا العالَمِ القَاسِ الشَّرِسِ.
وإن غاب الدّينُ مِنْ حياة النّاس فسيبحثون عن بديلٍ يُخدّر آلامَهم النفسيّةَ ويُصبح الأفيون نفسُه أفيونَ الناس، سواءٌ على الصّورة الحقيقيّة كالمُخدَّر أفيون، أو مجازًا كالتكنولوجيا الحديثة التي تُعطّل وعيهم وتُشَتِّتُ أفكارَهم.
التّكنولوجيا الحديثة وخُدَعُ آخر الزّمان
حذَّرَنا نبيُّنا الكريمُ ﷺ مِنْ فِتَنِ آخر الزّمان، وأخبرنا عن قدوم المسيح الدجّال وأنبأنا أنّه سَيَخْدَعُ الناسَ في إظهار ما يبدوا خيراً وحقيقتُه شرّ، فيأمر السَّماءَ أن تُمطرَ فتمطر، ويأمر الأرضَ أن تُنبت فتُنبت فيصدّقه النّاسُ ويُؤمنون به. تَأمّل أيُّها القارئ في سُهولة خِدَاعِ النَّاسِ اليَوْمَ من خِلالِ الذَّكاء الاصطناعيّ فكيف بأعظمِ فِتنةٍ عَرفتها الدُّنيا وهي خُروجُ الدَّجالِ؟
قال ﷺ: (وإنّ من فتنته أنّ معه جنّةً ونارًا، فَنَارُهُ جنّةٌ، وجنّتهُ نَارٌ) وهذا وَصْفٌ مُذْهِلٌ لواقعنا المُعاصر ويَحمل عِبَرًا تدعونا للتَّفَكُّرِ الجَّادِ في آثار هذه التكنولوجيا الحديثة وإلى أين تَقُودُنَا.
تساؤلات عن الآثار البعيدة للتّكنولوجيا الحديثة
إذا زُرْنا الأماكنَ العامّةَ نرى النَّاسَ جميعًا مُنْكَبِّينَ مُنْحَنينَ على شَاشَاتِهِمْ وفي هذا المشهد تَغَيُّرٌ جَوْهَرِيٌّ خِلالَ فَتْرَةٍ وَجِيزَةٍ جِدًّا.
ولذلك يجب أن نُقبلَ على التَّغْيِيِرِ بِتَأمُّلٍ وَحَذَرٍ، لِأَنَّ كُلَّ تَغَيُّرٍ سَرِيعٍ قَدْ يَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهِ خَطَرًا خَفِيًّا.
لا أَحَدَ مِنَّا يَعْلَمُ إلى أين تَسِيرُ الإنسانيّةُ وَلَكِنَّا في حاجةٍ للتّفكرِ الجَّادِ في مَخَاطِرِ الذَّكاء الاصطناعيّ وفيما سَيَفْعَلُهُ النَّاسُ حِينَ نَنْتَقِلَ إلى عِالَمٍ مُختلفٍ عن الّذي نحن فيه. والسُّؤال الآخرُ الّذي يتبادر للذِّهن: مَنِ المُستفيدُ الحقيقيّ مِنْ هذه التّكنولوجيا الحديثة؟ وفي حالة إلغاء ملايين مِنَ الوظائف بسبب الذّكاء الاصطناعي كيف سَيَتَأْقْلَمُونَ لذلك؟ وما الغايةُ من وجودنا حين تختفي الحياة مِنْ مَعَانِيهَا؟


















