728 x 90

هل التاريخ علم؟

هل التاريخ علم؟

هل التاريخ علم؟

بقلم الأستاذ: محمد إلهامي.

معنى «التاريخ» في اللغة العربية: تعريف الوقت أو الإعلام بالوقت. فالرسالة المؤرخة هي التي نعلم وقت كتابتها. ولكن هذا المعنى البسيط تطور ليدل على المعنى الواسع للتاريخ كما نفهمه الآن، من حيث أنه تسجيل لأحداث الماضي وسردٌ لها.

وقد تنوعت تعريفات التاريخ، وخلاصتها تدور على معنييْن؛ الأول: سرد الأحداث وتسجيلها. والثاني: سردها وتسجيلها بالإضافة إلى تفسيرها وتحليلها وتعليلها واستخلاص الفوائد منها. فقد وقع الخلاف فيما إن كان التفسير والتحليل داخلٌ في عمل المؤرخ أم لا، ولكن الواقع العملي أن عموم المؤرخين يساهم في التحليل والتعليل والتفسير ولو بالقليل.

ومن التعريفات الجامعة، تعريف ابن خلدون، الذي جمع بين السرد وبين التعليل والتحليل، يقول: «هو في ظاهره لا يزيد على أخبارٍ عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأُوَل، وتؤدي لنا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يُعَدَّ في علومها وخليق».

وهذه العبارة الأخيرة من تعريف ابن خلدون تفتح موضوعا شائكا:

1. هل التاريخ علمٌ أم فن؟

العلم يُقصد به غالبا أنه الأمور التي تتمتع بالدقة والصرامة وانضباط القوانين واضطرادها، ولا يختلف فيه الناس كثيرا، ومثالها الواضح: العلوم البحتة التطبيقية كالطب والهندسة والفلك ونحو ذلك مما لا تختلف فيه الأنظار ولا تختل فيه القواعد ولا يؤثر فيه دين الإنسان أو مذهبه أو هواه. وأما الفن فيُقصد به غالبا ما كان يتأثر بموهبة الإنسان وانحيازاته وإبداعه كالأدب بأنواعه من الشعر والنثر والقصة وكذلك الرسوم والموسيقى ونحو ذلك، فهذا شأن تختلف فيه الأذواق والميول والمواهب والأنظار، وليست له قواعد صارمة دقيقة مطردة.

ولا يزال الخلاف قائما حتى الآن ما إن كانت مجالات البحث الإنسانية، كالاجتماع والاقتصاد والنفس والتربية وغيرها، كلها تستحق أن توصف بأنها «علوم» تتمتع بالدقة والصرامة وثبات القواعد والقوانين؟ أم أنها يمكن أن تسمى «علوما ذات طبيعة خاصة»، بمعنى أنها أدنى في مرتبة الدقة والصرامة من العلوم التطبيقية البحتة كالهندسة والكيمياء ومن ثَمَّ تُعامَل كالعلوم ولكن مع رعاية طبيعتها الخاصة فيُتسامح في معنى الدقة والضبط والاضطراد ليتسع الأمر للخلافات وتعدد الأنظار؟ أم أن الوصف الأنسب لها هو الفنون إذ وقوعها تحت هذا الوصف أنسب لاستيعاب تأثرها بالكاتب والبيئة والظرف؟

إن الغرب الذي هيمنت عليه العلمانية والمادية والنزعة العلموية كان نزَّاعًا إلى وصف المجالات البحثية بـ «العلوم» حتى قبل أن تكتمل لها أي نظريات أو قواعد، وسارع بعض الغربيين إلى استعمال ألفاظ العلوم البحتة في وصف مجالات البحث الإنسانية. ولأن الغرب هو الثقافة المتفوقة والغالبة في العصور الأخيرة فقد تابعها على ذلك بقية الأمم: إما بتأثر المغلوب بالغالب، أو لطبيعة أن الغالب يفرض ثقافته ومناهجه على الأمم التي هيمن عليها.

بينما إذا نظرنا إلى هذا المعنى عند العلماء المسلمين وجدنا تخففا، فالغالب أنهم يستعملون لفظ العلم والفن بمعنى واحد، وابن خلدون نفسه يقول عن التاريخ «فن عزيز المذهب» ويقول كما قدَّمنا في التعريف «جدير بأن يُعَدَّ في علومها وخليق»، ولما كتب الكافيجي كتابه «المختصر في علم التاريخ» استعمل فيه لفظ العلم ولفظ الفن بمعنى واحد. ولما كتب حاجي خليفة موسوعته للتعريف بالعلوم والمؤلفات فيها سمَّاها «كشف الظنون عن اصطلاحات أسامي الكتب والفنون».

ولا يهمنا خوض هذا النقاش الفلسفي الطويل والمعقد عن تعريف العلم وخصائصه ومدى انطباق ذلك على مجالات البحث الإنساني، وهذا السجال المحتدم بين كون التاريخ علما أو فنا أو شيئا بينهما يكاد يكون مشكلة مقتصرة على البيئة العلمية الغربية، وبعضهم جعلها مشكلة عند الناطقين بالإنجليزية وحدها!

ولهذا فإن خلاصة ما يهمنا هنا أن:

– التاريخ علمٌ من حيث أنه يكشف عن المجهول كبقية العلوم، ومن حيث إمكانية استخلاص السنن والقوانين والطبائع منه عبر دوراته المتكررة وأحداثه المتشابهة، ومن حيث أنه يتناول الحقائق التي حدثت ويتعامل مع وثائق ونقوش ومواد ملموسة وليس إبداعا من الخيال والعاطفة كالأدب والرسم.

– ثم هو فنٌ من حيث أنه لا يمكن استخراج سُنَنِه على هيئة معادلات رياضية صارمة ودقيقة، ومن حيث أنه متأثر ومصطبغ بفهم المؤرخ وتفسيره وانحيازاته وبيئته وموقعه من الحدث، ومن حيث عدم خضوع ظواهره للتجربة والملاحظة الشاملة على نحو ما يجري في المعمل إذ هو لا يمكن إعادته وتكراره، ومن حيث أن مادته الأصلية من الوثائق والنقوش وغيرها لا تقدم غالبا الصورة التامة الدقيقة مما يُحتاج معه إلى الاجتهاد لملء الفراغات وتوقع ما قد كان.

وبعض الناس قنع أن المجالات الإنسانية لن تصير علوما لها ذات الدقة والصرامة كالهندسة والفلك، وبعضهم لا يزال يحاول، وبعضهم لا يزال يتمنى .. وما علينا من هؤلاء الآن؛ فهذا الخلاف في كون التاريخ علما أم فنا لا تكاد تكون له ثمرة عملية، وإنما ذكرناه لاحتياج الداعية والقارئ إلى فهم معنى الخلاف في الموضوع، وأما الذي يهمنا وينبني عليه عملٌ فهو موضوع نتناوله إن شاء الله في المقال القادم.

 

إقرأ أيضًا

أحداث ومناشط قادمة

الأحدث

الأعلى مشاهدة

من معرض الصور