خارطة البعثة الأممية.. المسافة بين النجاح والإخفاق
بقلم: عبد الله الكبير.
بعد فشل مجلسي النواب والدولة في تنفيذ مطالب البعثة بإكمال المواقع الشاغرة في مفوضية الانتخابات، وتعديل قوانين الانتخابات، أعلنت المبعوثة الأممية السيدة حنه تيتيه عن تفعيل الحوار المهيكل، وهو تجمع ليبي سيجمع ما بين مائة إلى مائة وعشرين شخصية، وقد يزيد إذا قدّرت البعثة ذلك، وبدأت في توجيه الدعوات للمؤسسات الوطنية لتقديم ترشيحاتهم للشخصيات المشاركة.
إلى جانب المؤسسات الرسمية، مجالس الرئاسي والنواب والدولة، ستدعو البعثة شخصيات من الأحزاب السياسية والجامعات ومنظمات المجتمع المدني، بالإضافة إلى شخصيات عسكرية، وكوتة خاصة بالمرأة قدرها الثلث.
رغم عدم وضوح الكثير من الجوانب في دور الحوار المهيكل ومدى فعاليته في دفع مجلسي النواب نحو التقدم في طريق الانتخابات، لأن ما رشح عن البعثة حتى الآن عن دور هذا الحوار لا يتعدى تقديم توصيات وسياسات عملية تهدف إلى تهيئة بيئة مناسبة لإجراء الانتخابات، وصياغة رؤية وطنية مشتركة، ومعالجة دوافع الصراع طويلة الأمد، مع دعم الجهود قصيرة الأمد الرامية إلى توحيد المؤسسات وتعزيز الحوكمة في القطاعات الرئيسية.
تبدو كل العناوين المناط بالحوار المهيكل بحثها مهمة وتحتاج بالفعل إلى معالجات جذرية، ولكن نقطة الضعف الأساسية هي محدودية قدرة لجان الحوار المهيكل على الضغط على المؤسسات الرسمية لتنفيذ توصياتها ومقترحاتها، لأنها غير منتخبة ولا تفويض لها من الشعب، بل وقع اختيارها من قبل البعثة، ووفقًا للمعايير التي أقرتها، ومن ثم سيكون مجال الطعن في شرعيتها واسعًا رغم التفويض والدعم الأممي لخارطة الطريق.
نائبة المبعوثة الأممية السيدة ستيفاني خوري قالت في آخر تصريحاتها إن مخرجات الحوار المهيكل غير ملزمة، أي أن للمؤسسات الرسمية الأخذ بها وتقديمها وتنفيذها أو طرحها وتجاهلها، ولكن رغم هذا الخيار الواسع ستشكل المخرجات حالة من الضغط إذا نالت الاستحسان والقبول الشعبي، كما أن الحوار المهيكل عبر لجانه يمكن أن يتطور إلى حوار سياسي على غرار ملتقى تونس – جنيف السابق، وينهض بما عجز عنه مجلسا النواب والدولة، ويذهب إلى دعم خيارات اللجنة القانونية الأخرى: “انتخابات تشريعية فقط، الاستفتاء على مسودة الدستور، تشكيل هيئة تأسيسية”.
لكن أي مقاربة من الحوار المهيكل نحو ملف الانتخابات أو الاستفتاء على مسودة الدستور ستصطدم بعقبة الشرعية، لأن سلطة التشريع للقوانين والاستفتاءات هي من اختصاص مجلسي النواب والدولة وفقًا للاتفاق السياسي.
مع انطلاق جلسات الحوار المهيكل نهاية الشهر الحالي، والتي ستستمر ما بين 4 إلى 6 أشهر، ستواصل البعثة العمل مع مجلسي النواب والدولة لحسم ملفي مجلس إدارة المفوضية العليا للانتخابات والقاعدة الدستورية للانتخابات. وجود هذا الحوار الوطني بالجوار سيشكل ضغطًا عليهما، وسيبعث فيهما الخشية من تجاوزهما إذا استمر الإخفاق، وهذا ربما يسرّع من توصلهما إلى توافق مقبول محليًا ودوليًا.
كل هذه التوقعات وغيرها تبقى في جهة الاحتمالات، لأن ثمة فواعل عديدة في المشهد السياسي، والمصالح متضاربة بين هذه الفواعل، فضلًا عن تشابك المسألة الليبية مع صراعات إقليمية ودولية، وبالتالي ستكون المبادرة الأممية مثل قارب في بحر متقلب العواصف، وكل موجة ستقذف بها في اتجاه غير معروف، ولا يمكن التفاؤل بنجاح المبادرة في كل مراحلها حتى تصل محطتها الأخيرة، ويذهب الليبيون إلى صناديق الاقتراع، كما لا يمكن التشاؤم، لأن انطلاق المبادرة والتجديد للبعثة عامًا آخر في مجلس الأمن يعني منحها الوقت الكافي لتنفيذها، مع احتمال توافق القوى الكبرى على تقاسم المصالح والنفوذ والتوصل إلى تسوية تسرّع من تنفيذ الخارطة الأممية.
مع كل العقبات القديمة، يظهر للبعثة تحدٍ جديد بالغ الخطورة، فحفتر بادر بتحريك حكومته لتصدر عدة بيانات تهاجم فيها البعثة وتشكك في مصداقيتها وتكيل لها الاتهامات، وإزاء ترفع البعثة عن الرد باعتبار هذه الحكومة غير معترف بها دوليًا ولا تعد ضمن المؤسسات الرسمية، كثّف حفتر من لقاءاته مع شخصيات في مناطق سلطته قدّمها تحت لافتة شيوخ القبائل، ليعلن عن فشل كل المبادرات المحلية والدولية في حل الأزمة السياسية، داعيًا الشعب إلى التحرك واتخاذ موقف، مؤكدًا أن قواته المسلحة مستعدة لمساندة قرار الشعب.
خطاب حفتر قديم يتجدد مع كل دورة يظهر فيها دكتاتور جديد، فالشعب الذي يطالبه حفتر بالتحرك يطالب منذ سنوات بالتغيير عبر الانتخابات، ولكن عصاباته التي يسميها القوات المسلحة العربية الليبية تعطل كل المسارات نحو الاستقرار، وتواصل ممارسة أعمالها الإجرامية وإرهاب كل من ينتقدها. ولكن أخطر ما في خطاب حفتر هو تلويحه باستخدام القوة، ليس مهمًا أن يكسب الحرب أو ينهزم كما تعوّد، لأن هدفه الأقرب هو إجهاض أي محاولة للتقارب والتحاور بين الأطراف الليبية، مثلما فعل في أبريل 2019 قبل انعقاد ملتقى غدامس بنحو عشرة أيام، لتستمر البلاد في حالة انقسام وضياع ما دامت لم تنصبه رئيسًا عليها.
هكذا تبدو المسافة بين نجاح مبادرة البعثة في إنهاء الأزمة أو فشلها كما فشلت المبادرات السابقة متساوية، فجلّ الأوراق بيد الأطراف الدولية والإقليمية، ولا يوجد حراك داخلي فاعل ومثابر ومتصاعد يدفع الجميع نحو التفاعل الإيجابي مع المبادرة والعمل على تنفيذها، والفرصة التي يمكن أن تتوافق فيها الأطراف الدولية والإقليمية ليست متعذّرة
لكنها نادرة.















