728 x 90

مقال بعنوان: (( في معنى النصر والهزيمة بين السياق القرآني وحرب العقول ))

مقال بعنوان: (( في معنى النصر والهزيمة بين السياق القرآني وحرب العقول ))

مقال بعنوان: (( في معنى النصر والهزيمة بين السياق القرآني وحرب العقول )).

بقلم الأستاذ: نزار كريكش.

في معنى النصر والهزيمة بين السياق القرآني وحرب العقول

يخيل إليّ حين أشاهد ما يحدث لأهل غزة ومقاومتها، وأستمع للتحليلات المتباينة في القنوات التلفزيونية أو في وسائل التواصل الاجتماعي، أن نزاعًا آخر ينشب في عقول المتلقين من كافة المتابعين، سواء كانوا من المناصرين للمقاومة أو الموالين للكيان الصهيوني. سيطر نمط من التحليل لأحداث غزة، خاصة في قناة الجزيرة، مفاده أن اليمين المتطرف يسعى لاستمرار الحرب للبقاء في الحكم، خاصة من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. هذا التصور يعني أن الحرب في غزة هي امتداد للسياسة داخل إسرائيل، وهو تصور معروف للاستراتيجي الروسي كلاوزفيتش، صاحب تلك المقولة الشهيرة: إن الحرب امتداد للسياسة. هكذا سيطر التركيز على شخصية رئيس الوزراء وتصريحاته وإصرار وزرائه على الحرب.

هذا التحليل انعكس على تصور نهاية الحرب في غزة، ومن هنا كان الحديث عن نصر المقاومة؛ فبما أن الأهداف السياسية لإسرائيل، المتمثلة في القضاء على حماس وتهجير أهل غزة وفق مقترح الرئيس ترمب، لم تتحقق، فإن ذلك سيعني أن أهداف الحرب لم تتحقق، وبذا خسرت إسرائيل وفق هذا التصور للحرب. لكن هناك تصورًا آخر للحرب؛ إذ يقول الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو إن السياسة امتداد للحرب بوسائل أخرى. فهناك نزاعات ثقافية واجتماعية واحتلال، وهو ما يمثل حروبًا دائمة في فلسطين، لم يكن آخرها طوفان الأقصى. هناك نزاعات كثيرة لم تنته في فلسطين، وهي التي لم يسلط المحللون أعينهم عليها. هذا التصور تمثل فيما يعرف بحرب الأعصاب (Neurowarfare)، وهو مفهوم للحروب برع فيه الاتحاد السوفياتي والاستراتيجيون الروس، فإنه خلال الحرب الباردة كان كسب العقول هو الأساس الذي يضمن للأيديولوجيا الاشتراكية أو الليبرالية القدرة على الإقناع، ومن ثم الاتباع، ساعتها تكون الحرب قد آتت أكلها.

مؤخرًا، مع انتشار علوم الإدراك والأعصاب ووسائل التواصل الاجتماعي، أخذت حرب المعلومات بعدًا أكثر وضوحًا حين أُضيفت قوة أخرى إلى القوة الصلبة والقوى الناعمة، وهو ما يُعرف بالقوة الذكية؛ وهي أن تُقنع خصمك بأفكارك لتجعله يُحقق أهدافك دون أن تطلق رصاصة واحدة. التاريخ العسكري ملآنٌ بهذه المحاولات التي تسعى لتغيير أفكار الآخرين بدلًا من قطع رؤوسهم!

من هنا تغير معنى النصر تمامًا، فهناك مساحة جديدة هي التصورات والأفكار. فالحرب قد تكون حربًا نفسية أو عصبية أو حربًا على الإدراك، وهو ما جعل البروباغندا والمعلومات والسرديات المختلفة لكافة الثقافات مساحة جديدة للحرب ومساحة أكبر لمعنى النصر والهزيمة. مؤسسة روتليدج نشرت للكاتب أرمين كريشان كتابًا كاملاً حول ظهور حروب الأعصاب.

هذه الخلفية جعلتني أتأكد من أن سياق القرآن في السور من طه إلى سورة المؤمنون له قيمة مضافة لفهم معنى النصر والهزيمة، لأنه يمتد لمعنى الحياة نفسها، ومفهوم السعادة والشقاء، والفوز والخسارة. كل تلك المفاهيم هي جزء من فهمنا للاستراتيجية التي توصل للنصر. فلا شك أن الرؤية الكونية لكل طرف في أي نزاع تُعد جزءًا أساسيًا من الحرب، وهي التي تختلف تمامًا عن كون الحرب امتدادًا للسياسة. فما حدث في غزة هو امتداد لتناقضات قديمة تعيشها المنطقة، انفجرت وغزت العقول وأطاحت بسردية الكيان تمامًا.

في هذه السور نجد الحديث عن السعادة والشقاء، فالرسالة التي أنزلت على النبي هي رسالة للسعادة والنصر والفوز، كما في الأمثلة التي ذكرت في سورة طه والأنبياء. في سياق تلك السور كان الحديث عن المستقبل والآخرة، وأن لحظة الفوز الأخيرة هي اللحظة التي تختصر الزمن مهما كان الوصول لتلك اللحظة صعبًا وقاسيًا. هل إذا استمر موسى يرعى أهله ويسقي غنيماته كان ذلك من السعادة التي يمكن أن يفني الإنسان من أجلها؟ ما الذي جعل السحرة يختارون هذا الخيار الصعب؟ وهل هذا يعني أنهم نالوا السعادة التي يرجونها؟ من هنا، كان يبدو عالم القيم والأفكار مساحة واسعة يدور حولها النزاع، وهكذا يصبح لكل طرف تصور عن النصر والفوز والخسارة والهزيمة. وإذا كان الأمر كذلك، فإن العبرة حقًا بالخواتيم. فإن المقاومين من أهل غزة، وفقًا لرؤيتهم للحياة والكون وتصوراتهم، ينتظرون الخاتمة التي يبحثون عنها، سواء في الدنيا أو الآخرة. في الآخرة، الأمر واضح، وهو نيل الشهادة التي تمناها كل واحد منهم وسعى إليها. فماذا عن الدنيا؟

تبين سورة الحج ما هو النصر، فنقرأ فيها تلك الآية العظيمة: «مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى ٱلسَّمَآءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُۥ مَا يَغِيظُ» (الحج: 15). تؤكد أن الواقع مهما أصابنا بالغيظ فإن تغييره لن يكون بالهروب منه (كأن ينتحر الإنسان بأن يمد حبلاً إلى السقف ثم ينتحر)، بل بالصبر والعمل والمثابرة لتغيير الواقع، وهذا هو معنى التدافع الذي تؤكده السورة في حادثة تهجير المسلمين من مكة والاعتداء على أموالهم وأرزاقهم. فأهل غزة كانوا في معاناة حقيقية، وأن فكرة تغيير الواقع ودفعه قد تكون مغامرة وتبدو جنونًا، لكنها لا تقل غرابة عن مجيء موسى عليه السلام لفرعون يريد أن يخرج بني إسرائيل من أرضه. إنه نفس السياق: سياق البحث عن المستقبل والتفكير خارج الأطر المعهودة لفرض واقع جديد. هذا معنى النصر الذي بينته بوضوح سورة الحج في حالة سيدنا إبراهيم حين أذّن في الناس فأتوه من كل فج عميق، وهذا ما حدث تمامًا لأهل غزة حين أذّنوا في الناس أن البشرية تعاني من الظلم والقهر، وأن النظام العالمي الرأسمالي قد فرّغه الليبراليون الجدد وملاك الشركات الكبرى والمؤمنون بالمعطيات الضخمة من كل القيم التي كان العالم يظن أنه ينعم ويسعد في ظلها.

في هذا المستوى يبدو النصر حليفًا لأهل غزة لأنهم استطاعوا تغيير العقول واستجاب لهم العالم حبًا ونصرة، رمزًا وحقيقةً. في سورة المؤمنون يتعزز المعنى بوضوح بأن وراثة الأرض، وليس مستوى العقول فقط، هو الذي سيتحقق، وهو المعنى الأكبر في معنى النصر، فكما بينت هذه السور في قصص الأنبياء ونصرتهم، فإن فكرة الوجود على الأرض، أي البعد المكاني للحرب، هي قضية أساسية؛ فلم يخرج أهل غزة منها، ولم يكونوا في غير أرضهم، ولم يرضوا بغيرها، وهذا قد يكون واقعًا إذا استطاعت هذه الأمة أن تنظر لما حدث في غزة كواقع جديد لعالم آخر، وأن يكون ما حدث بداية لعلاقات دولية أكثر إنسانية. لقد انتبه ميشيل فوكو لذلك حين ربط بين الحرب والإخضاع، وأن النظام الرأسمالي حين يتحدث عن حرية الفرد إنما يتحدث عن إخضاعه، من هنا يقال في الإنجليزية Subject، وفعل الإخضاع هو Subjugation. من هنا يكمن جوهر النصر والهزيمة في الخضوع بكل معانيه النفسي والعقلي والواقعي، وهذا لم يتحقق في غزة، بل تسرب وعي لم يخطر ببال أحد في عقول العالم، وخضعوا لسرد لم يكن يخطر ببال أحد أن يبلغ الآفاق.

نُشر المقال يوم الأحد الموافق 2 نوفمبر 2025

إقرأ أيضًا

أحداث ومناشط قادمة

الأحدث

الأعلى مشاهدة

من معرض الصور