728 x 90

مقال بعنوان: التقنية والقيم الإنسانية

مقال بعنوان: التقنية والقيم الإنسانية

مقال بعنوان: التقنية والقيم الإنسانية.

✍️ بقلم الدكتورة: نجاح بن زايد.

التقنية والقيم الإنسانية

يشهد العالم اليوم تحوّلًا حضاريًا غير مسبوق تقوده تقنيات الذكاء الاصطناعي، التي لم تعد مجرد أدوات لأتمتة المهام أو تسريع الخدمات، بل أصبحت منظومات فاعلة في تشكيل الوعي وتوجيه السلوك وإعادة تعريف القيم والمفاهيم الأخلاقية والاجتماعية.لم يعد الذكاء الاصطناعي حدثًا تقنيًا فحسب، بل أصبح قوة ثقافية ومعرفية تُعيد صياغة علاقة الإنسان بالعالم وبذاته. وفي هذا الإطار، تبدو ليبيا نموذجًا مهمًا لدراسة هذه التحولات، لما تعانيه من هشاشة اجتماعية وسياسية تقابلها بنية رقمية متسارعة، جعلت القيم والهوية أمام اختبار عسير.

لقد دخلت التقنية عصرالإنسان من أوسع أبوابه؛ فبعد أن كانت الأداة في يد الإنسان، أصبح الإنسان ذاته أداة داخل منظومة أكبر منه. أصبح يعيش في فضاء تتقاطع فيه الخوارزميات والإعلانات والمحتوى الموجَّه، وكلها تعمل على إعادة هندسة إدراكه . هنا لم تعد التقنية مجرد وسيط بين الإنسان والعالم، بل أصبحت العالم ذاته الذي يرى من خلاله الإنسان نفسه ويرى الآخرين.

سابقًا كانت القيم الاجتماعية في ليبيا، كما في المجتمعات العربية عمومًا، تُبنى عبر تفاعل الأسرة والتعليم والمجتمع المدني والدين، في سياق عام  يراكم الخبرات الثقافية والمعنوية. كما كانت هذه المنظومات تنقل معاني الكرامة والتضامن والخصوصية والحكمة من جيل إلى آخر من خلال تجربة إنسانية حية ومباشرة. غير أن هذا البناء التقليدي بدأ يتفكك تدريجيًا مع صعود الخوارزميات التي بدأت تتسلل إلى تفاصيل حياتنا اليومية عبر وسائل التواصل والمنصات الرقمية، فتؤثر فينا وفي تشكيل المحتوى، وترتيب الأولويات، وصياغة الذوق الجمعي.

فهذه الخوارزميات والبرامج الحاسوبية الذكية تتعلم من البيانات وتقرر بناءً على أنماطها، فهي أشبه مايكون بمصفاة إدراكية تتحكم فيما نراه ونفكر فيه ونؤمن به. كما أنها لا تعكس الواقع كما هو، بل تعيد إنتاجه وفق منطق الربح والسرعة والتفاعل اللحظي، مما جعل القيم الاجتماعية تتشكل على أسس تقنية صرفة وليست إنسانية. ولهذا، لم يعد الإنسان متلقيًا محايدًا للمعرفة، بل أصبح جزءًا من منظومة تبرمج سلوكه ورؤيته للعالم في ضوء معادلات خفية. لقد تحوّل بفعل التقنية من كائن معنوي تحكمه القيم إلى مستهلك بيانات تحددها خوارزمية.

الذكاء الاصطناعي ليس أداة محايدة، ولذلك فهو لا يغيّر أدواتنا فقط بل يعيد تشكيل وعينا. ولعل المتتبع لمسار التقنية سيلاحظ هذا الانتقال التدريجي من قيم التضامن والخصوصية إلى منطق البيانات والسرعة، ويبدو ذلك واضحًا في المجتمعات الحديثة التي تظهر عليها علامات تفكك الروابط الاجتماعية.في ليبيا على سبيل المثال تتفاقم هذه الظاهرة بسبب هشاشة البنية الاجتماعية وتداخل الأزمات السياسية والاقتصادية كما أوضحنا.

ليبيا، التي ما تزال تبحث عن توازن اجتماعي بعد فترة طويلة  من الاضطرابات، تواجه اليوم شكلًا جديدًا من أشكال  التحدي لا يأتي من الخارج بالسلاح، بل من الداخل عبر الخوارزميات والمحتوى الموجّه الذي يعيد تشكيل وعي الناس، ويؤثر في تصوراتهم عن الهوية والدين والسياسة والمستقبل. وهنا تكمن خطورة التحول الرقمي غير الواعي، أي الانتقال إلى العالم الرقمي دون امتلاك أدوات نقدية تحصّن المجتمع من تلاعب التقنية بالإدراك والثقافة.

وبحسب تقارير صادرة عن شركة ميتا. عام 2021، أزالت الشركة شبكة مكوّنة من 41 حسابًا على فيسبوك و133 صفحة و3 مجموعات و14 حسابًا على إنستغرام كانت تُدار من الخارج، واستُخدمت في عمليات تضليل واستقطاب سياسي تستهدف المجتمع الليبي. وهو مثال حي على  كيفية استغلال الفضاء الرقمي في تغذية الانقسامات الداخلية وزعزعة استقرار المجتمع، وايضًا نموذج لما يمكننا تسميته بالهندسة الخفية للوعي الجمعي.

في المقابل وعلى صعيد اجتماعي موازٍ، أظهر تقرير المنظمة الليبية للسلام والتنمية (2022) من خلال مبادرة (لا للابتزاز الإلكتروني في ليبيا) أن نسبة كبيرة من النساء المتعرضات للابتزاز لا يُقدمن على التبليغ، إذ يُقدَّر أن 60% منهن يلتزمن الصمت خوفًا من الوصمة الاجتماعية. هذا الصمت لا يعكس فقط ضعف التشريعات، بل يؤكد لنا وجود أزمة قيمية عميقة في مفهوم الخصوصية والكرامة داخل الفضاء الرقمي، حيث تتحول القيم الأخلاقية من أدوات حماية إلى أدوات ضغط اجتماعي.

من المؤكد أن هذا الأمر لا يقتصرعلى ليبيا فقط، فالعالم العربي بأسره يعيش في مفترق طرق أخلاقي، حيث يمكننا وبكل سهولة ملاحظة هذا التداخل الرهيب للتقنية مع البنية الثقافية التقليدية وبشكل غير متوازن. والمفارقة كيف تتيح المنصات وتطبيقات التواصل الاجتماعي للأفراد  فرصًا غير مسبوقة للتعبير والمعرفة، وفي  نفس الوقت تفكك منظومة القيم الجماعية  والمرجعيات الثقافية  . نظرة واحدة فاحصة للمجتمعات الحديثة تبين لنا  تحوّل الرأي العام إلى مجرد منتج رقمي تُعيد صياغته الخوارزميات وفق منطق الإعجاب والمشاهدة، والمتابعة المحمومة لتطبيقات التقنية وبعيدًا عن منطق الحقيقة والعقل .

هنا يُطرح سؤال فلسفي مهم: من يصنع الإنسان في هذا العصر؟ وهل ما زالت الثقافة الإنسانية والضمير الجمعي والتجربة الذاتية هي التي تُنتج الهوية، أم أن الخوارزميات التي تُغذي الوعي بالمعلومة والرمز والصورة هي الفاعل الخفي في إعادة تشكيل الذات البشرية؟ هذا السؤال يدفعنا إلى ضرورة تأسيس الفلسفة الرقمية، وأعني بها  منظومة فكرية وأخلاقية تسعى إلى إعادة التوازن بين الإنسان وأدواته التقنية، وبين القيم الإنسانية والمعايير الخوارزمية.

تزداد الحاجة إلى هذه الفلسفة بالنظر إلى البعد الأمني لهذا التحول، خاصة وأن الأمن القومي في ليبيا، كما في غيرها من الدول، لم يعد مقصورًا على حماية الحدود أو السيطرة العسكرية، بل أصبح يتصل بالوعي الجمعي والقدرة على حماية المجال الإدراكي من الاختراق. فنحن اليوم لا نواجه خطرًا عسكريًا تقليديًا فحسب، بل نواجه ما يُمكننا تسميته بـالاحتلال الإدراكي غير المرئي، حيث يتم توجيه سلوكيات الناس من الخارج عبر خوارزميات خفية تُعيد تشكيل الرأي العام وتسعى لخدمة صالح القوى غير المرئية.

في هذا الصدد تؤكد مجلة العلاقات الدولية (2022) في أحد تقاريرها أن غياب ثقافة وطنية لحماية الفضاء الرقمي قد يؤدي إلى فقدان السيادة الرقمية، وهو ما يهدد الهوية الوطنية الليبية ذاتها. فنحن اليوم أمام شكل جديد من السيطرة لا يعتمد على الجيوش، بل على تقنية رقمية تُعيد برمجة العقول وتشكيل القيم والمواقف والمشاعر الجماعية.

لمواجهة هذه التحديات، لا بد من وضع استراتيجية محكمة تراعي التطور الأسي الرهيب للتقنية، وتشمل ثلاثة جوانب  مهمة: الجانب الثقافي، الجانب التشريعي، والجانب التربوي.وذلك على النحو التالي :

أولًا: إدماج القيم الرقمية والأخلاق التقنية ضمن المناهج التعليمية والإعلام الوطني، لتعزيز التفكير النقدي الرقمي وفهم آليات الخداع التقني والمحتوى الموجَّه، فالتربية الرقمية هي خط الدفاع الأول عن الوعي الجمعي.

ثانيًا: سنّ تشريعات واضحة تضمن السيادة الرقمية وحماية البيانات الشخصية، عبر إنشاء هيئة وطنية مستقلة تُشرف على الفضاء الرقمي وتراقب نشاط المنصات العالمية داخليًا، وتضع سياسات لحماية المحتوى الوطني من الاختراق والعبث.

ثالثًا: تمكين المواطن الرقمي عبر برامج توعية وتدريب مستمرة تُنمّي قدرته على التحقق من المصادر والتعامل الآمن مع الفضاء الافتراضي، باعتباره شريكًا في إنتاج الوعي الجمعي.

إن التحدي الحقيقي لا يكمن في التقنية ذاتها، بل في الإنسان الذي يتعامل معها دون وعي كافٍ  بحدودها وأخطارها. فالمجتمعات التي لا تمتلك رؤية قيمية وأخلاقية تجاه التقنية ستبقى رهينة لها، أما تلك التي تدرك طبيعتها وتُخضعها لمنظومة أخلاقية إنسانية، فهي التي تستطيع  الحفاظ على سيادتها المعرفية والروحية.

من هذا المنظور لا يمكننا اعتبار الذكاء الاصطناعي  مجرد اختراع ، بل قوة حضارية تُعيد رسم حدود الإدراك الإنساني، هذه القوة تطرح سؤالاً فلسفيًا مُلحاً :

هل مازال الإنسان يمتلك الوعي النقدي المستقل، أم أنه أصبح نتاج خوارزميات تُعيد برمجته في صمت؟ ربما يكون هذا السؤال هو التحدي الفلسفي الأكبر الذي يواجه البشرية في عصر الذكاء الاصطناعي، ويستدعي من المجتمع العربي والليبي على وجه الخصوص  التفكير في ضرورة خلق توازن جديد بين التقنية والقيم الإنسانية النبيلة.

 

إقرأ أيضًا

أحداث ومناشط قادمة

الأحدث

الأعلى مشاهدة

من معرض الصور