728 x 90

مقال بعنوان: ((معركة الدليل والمذهب .. حقيقة أم خيال؟))

مقال بعنوان: ((معركة الدليل والمذهب .. حقيقة أم خيال؟))

مقال بعنوان: ((معركة الدليل والمذهب .. حقيقة أم خيال؟)).

بقلم الأستاذة: مصطفى البدري.

معركة الدليل والمذهب!!

حقيقة أم خيال؟

 

لا شك أن البدايات في كل شيء لها تأثيرها العميق في مراحل النمو والتأسيس وحتى الوصول إلى مراحل النضج والاستواء.

وكثير من الدعاة والمنتسبين إلى طلب العلم في عصرنا قد بدأوا مسيرتهم نحو الالتزام بأحكام الإسلام من خلال كتيبات ورسائل ومطويات صغيرة تجيب عن كثير من أسئلة تمس الحاجة إليها في مجتمعاتنا.

هذه الرسائل كانت توزع مجانًا أو تباع بأسعار زهيدة جدًا لدرجة أنها دخلت عامة بيوت المسلمين، وبالطبع كان يراعي كتابها مستوى الجماهير التي يتم استهدافها من خلال هذه المنشورات، ومن ثم كان الاختصار وعدم الخوض في الخلاف ومناطات الأدلة هو السمة الغالبة عليها.

إذن.. كان الشيخ يجيب عن السؤال أو يتكلم حول المسألة المطروحة بكلام يسير بسيط يفهمه العامة ويقدرون على تطبيقه، فقد كان الجواب يحتوي على كلمة (حلال / حرام / واجب / سنة / مكروه) مع ذكر الدليل إذا كان واضحًا، وربما لم يذكر الدليل إذا كان مما يلزم لفهمه أدوات استنباط أو مناقشة أدلة أخرى ظاهرها التعارض مما لا يعيه إلا طلاب العلم ومن عندهم نوع دراسة واختصاص.

 

كنت واحدًا ممن قرأوا الكثير من هذه الكتابات وأحبوها وتعلقوا بها، ولم أكتفِ بالالتزام الشخصي بمضمونها، بل كنت أحرص على نقل ذلك ونشره بطريقتي وأسلوبي، وأحيانًا كنت أتقمص شخصية الكاتب (الذي لا أعرفه أصلا) لكن.. ولحرصي على الهدي الظاهر من لحية وقميص (جلباب) قصير وغطاء رأس، كان الآخرون يتقبلون مني ذلك ويعتبروني شيخًا!!

بعد مدة قصيرة اشتريت كتاب (منهاج المسلم للشيخ أبو بكر الجزائري) واتخذته رفيقًا في كل تحركاتي، وكنت أنظر فيه باحثًا عن جواب أي سؤال يطرأ لي في حياتي اليومية، حتى وجدت فيه بعض الأحكام التي تخالف ما أحفظه من الكتابات القصيرة، وعندما سألت الإخوة الكبار عن ذلك.. كان الجواب متقاربًا بما معناه: الشيخ في الكتاب يلتزم بالمذهب، أما الكتابات الصغيرة تلتزم بالدليل!! ونصحوني بكتاب آخر يلتزم بالدليل وليس المذهب.

 

بعدها دخلت مسابقة عند الشيخ مصطفى العدوي وفزت فيها بجائزة (كتاب: فقه السنة للشيخ سيد سابق) وهنا نصحني الإخوة بكتاب تمام المنة في التعليق على فقه السنة للشيخ الألباني، فاشتريته وقرأته كاملًا قبل أن أقرأ كتاب فقه السنة!! وقد كنت أحضر آنذاك دروس الشيخ مصطفى العدوي التي يشرح فيها كتاب فقه السنة ويعلق عليه، وأحيانًا كان يأتي بكلام الشيخ الألباني ليستشهد به أو ليرد عليه.

وهنا بدأت تظهر لي حقيقة الخلاف وتعدد وجهات النظر حتى عند الملتزمين بالأدلة وليس المذاهب الفقهية المعروفة.

التحقت بمعهد إعداد الدعاة التابع لجمعية أنصار السنة المحمدية بمصر، وكانت الدراسة وفق مدرسة الدليل.

أصبحت إمام مسجد بمدينتي المحلة الكبرى، ومازلت أدور داخل مدرسة الدليل.

التحقت بمعهد إعداد الدعاة التابع للجمعية الشرعية بمصر، وكانت المناهج فيه مختلفة عما اعتدت عليه (لو لم تخنّي الذاكرة.. كانت الدراسة على مذهب الإمام الشافعي)؛ ففشلت ولم أكمل.

بدأت التوسع في دراسة الفقه والأصول داخل هذه المدرسة؛ فكانت الكتب المعتمدة عند شيوخي: سبل السلام شرح بلوغ المرام / نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار / زاد المعاد في هدي خير العباد / بداية المجتهد ونهاية المقتصد… وكتب أخرى بارزة مثل: روضة الناظر لابن قدامة، فتح الباري لابن حجر، شرح صحيح مسلم للنووي، وتفسير ابن كثير… وغيرها [وهذه كتب لو تعلمون عظيمة].

 

حتى فوجئت داخل هذه المدرسة بشيخ يشرح كتاب: منار السبيل في الفقه الحنبلي؛ لكن المفاجأة لم تدم طويلًا، فالشيخ لا يدرّس الفقه الحنبلي، إنما يشرح الفقه المقارن عن طريق هذا الكتاب!!

إلى هنا أنا لا أمدح ولا أذم؛ فقط أروي ما حدث معي.

لكن ظهر عندي إشكال.. الذي تشرّبتُه في نفسي وارتكز فيها -بغير تصريح من أحد- أن المذاهب الفقهية والانتساب إليها شيء مُحدَث وربما يكون بدعة وضلالة، لأنه مجرد مذهب لفلان أو علان، وليس معتمدًا على نصوص الكتاب والسنة؛ في حين أن كل الكتّاب والشارحين والمدرسين ينقلون أقوال أئمة وعلماء المذاهب الفقهية، ويثنون عليهم، ويعتبرونهم رؤوس ورموز وقادة أهل السنة والجماعة!!

كنت أحاول الاجتهاد مع نفسي لتجاوز هذا الإشكال، أو على الأقل التخفيف من حدته؛ فأقول: هذه من مسائل الاجتهاد السائغ؛ العلماء الذين قرروا المذاهب اجتهدوا فأخطأوا، ومشايخي اجتهدوا فأصابوا.

 

لكن.. مع مرور الوقت وكثرة الاطلاع والقراءة واتساع رقعة الإدراك والمعرفة بدأت الكفة تتحول شيئًا فشيئًا للجهة الأخرى؛ فعامة العلماء الكبار، أصحاب المصنفات المهمة (باستثناء نذر يسير) ممن أتعرف عليهم وأقرأ كتبهم كانوا متمذهبين؛ فكنت أسأل نفسي: هل شيوخي (الذين أُقدّرهم وأُجلّهم وأحفظ لهم فضلهم) اهتدوا لما قد ضل عنه جُلّ العلماء الذين جاؤوا بعد ظهور المذاهب الفقهية؟!

حتى العلماء الذين ندعي النسبة إليهم كابن تيمية وابن القيم.. منتسبين إلى أحد هذه المذاهب.

بل حتى المشايخ الذين كانت تكتب أسماؤهم على هذه الكتيبات والمطويات الصغيرة كابن باز وابن عثيمين.. كانوا أيضًا منتسبين للمذاهب الفقهية المعروفة، ويحرصون على عزو أقوالهم لأئمة هذه المذاهب.

حينها.. تأكدت من خطئي، وبدأت أصحح مساري، وعُدتُ إلى دراسة مذهب من المذاهب الأربعة المعتمدة عند أئمة وعلماء الإسلام على مر العصور.

 

السؤال الآن: هل توجد معركة حقيقية بين فقه المذاهب وفقه الدليل؟

الجواب من خلال تجربتي: عندما كنت أدرس وأقرأ وفق منهج مدرسة فقه الدليل كانوا يحرصون دائمًا على ذكر أقوال المذاهب، وعندما يرجحون ما يرونه موافقًا للدليل، كانوا يقومون بعزوه للقائلين به من الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين؛ وهذا ظاهر لكل من طالع الكتب التي ذكرتها قبل قليل.

وعندما بدأت دراسة المذهب عبر كتبه ومراحله وجدتهم يحرصون على ذكر الأدلة من الكتاب والسنة، ومناقشة أدلة المخالفين سواء داخل المذهب أو من المذاهب الأخرى، مع إعمال القواعد الأصولية في الجمع أو الترجيح بين الأدلة.

لا أريد أن أقول إنهما مساران متساويان من حيث المستند والثمرة (وسأبين هذا هنا)؛ لكني أريد التأكيد على أن المعركة مُختلَقة من فريقين:

  • فريق تعصب لمذهبه تعصبًا أعمى، وجعل كل دليل مخالف لما عليه مذهبه غير صالح للاستدلال؛ إما بنسخه أو تضعيفه أو تأويله!
  • فريق زعم أن الدراسة المذهبية تصرف طالب العلم عن تعلم الأدلة من الكتاب والسنة!

وهذان الفريقان متصارعان متقاتلان، بسبب الجهل وقِصَر العقل وعطن الفهم لا أكثر.

 

وبالنسبة لرأيي (الذي قد لا يكون ذا قيمة بعدما مضى) فإن مدرسة الدليل أخطأت في المستند والثمرة.

أما من جهة المستند.. فإن الإجماع حجة شرعية كما هو مقرر في الأصول، وبالتالي لا يستطيع عالم من العلماء مهما بلغت قدرته على الاجتهاد والنظر في الأدلة أن يخرج عما قرره الأئمة في المسائل والأحكام المستقرة، وغاية عمله هو الترجيح بين أقوالهم، بما يؤهله للاجتهاد والحكم في الحوادث والنوازل.

وأما من جهة الثمرة.. فإن هذا المسار أنتج سلبيتين كبيرتين:

  • إحداث فوضى عارمة في الساحة العلمية بسبب الفوضى التي ترسخت (بقصد أو بغير قصد) في نفس طالب العلم الذي لا يلزم منهجًا تدريجيًا واضح المعالم كما هو الشأن عند الدراسة المذهبية؛ نعم.. فإن علماء المذاهب في كل عصر ومصر يجتهدون في وضع منهج دراسي يلزم به طالب العلم، ولا يحصل على الإجازة أو التزكية إلا بعد اجتياز مراحله بنجاح، ورغم الإقرار بأن بعض هذه المناهج فيه من التشديد والإطالة ما يحتاج لإعادة نظر، إلا أنها حافظت في الجملة على استقرار وثبات الحالة العلمية داخل إطار المذهبية؛ وفي المقابل فإن دعاة مدرسة الدليل مازالوا يعانون إشكاليات لا حصر لها بسبب عدم القدرة على رسم مناهج مستقرة واضحة، وكثير منهم قد اعتمد -بعد طول عناء- منهجية بعض المذاهب الأربعة.
  • الضعف التأصيلي الواضح عند كثيرين من خريجي هذه المدرسة، وميل بعضهم إلى الفقه الظاهري الذي يريح من عناء دراسة عِلمَي الأصول والقواعد الفقهية!! وهذا أكسبهم بلا شك حِدّة مذمومة عند مناقشة الخلاف، فهم يريدون الحسم والقطع في كل مسألة بقول واحد صحيح مع تخطئة بقية الأقوال مهما كانت مناطاتها صحيحة معتبرة عند أهل العلم؛ وقد عايشت بنفسي بعض من يفتون بحرمة دراسة علم أصول الفقه بدعوى تيسير العلم!!

 

وقد يشكل على البعض المقولة المشهورة: ماذا كان مذهب نبينا عليه الصلاة والسلام، وما هي مذاهب الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين؟

أقول وبالله التوفيق: الأصل هو التمسك بالقرآن والسنة قولًا وعملًا وحُكمًا، وقد كان الصحابة على ذلك بما حباهم الله به من شهود التنزيل وملازمة خاتم الأنبياء والمرسلين، فضلًا عن عربيتهم الأصيلة التي أغنتهم عن الحاجة للشرح والبيان إلا قليلًا.

وبالطبع كان التابعون والأئمة المتبعون على نفس النهج والسبيل، حتى اتسعت رقعة بلاد الإسلام، ودخل في الدين من لا يعرف العربية وأساليبها، فكانت الحاجة إلى تدوين الأحكام بطريقة تساعدهم على فهمها وتطبيقها، وتدرج العلماء في تأطير المذاهب وقولبتها شيئًا فشيئًا بحسب حاجة المسلمين.

والأصل بقاء واستمرار ما نشأ لأجل الحاجة أو الضرورة مع بقائها واستمراريتها، كما هو الشأن مع تقسيم العلوم إلى عقيدة وفقه وسيرة وحديث …إلخ.

نضيف إلى ذلك أن عامة أهل البدع والضلال كانوا يرفعون شعارات التمسك بالقرآن والسنة والإعراض عن فهم وتقريرات الأئمة.

وهنا نعكس السؤال: هل زالت الحاجة لتقسيم العلوم وتأليف المصنفات وتدوين المذاهب؛ أم أنها زادت عما كانت عليه في القرون الأولى؟

أظن الجواب واضح.

ولا يخفى على قارئ هذا المقال أن أمر التعامل مع العامة في جانبي الدعوة والفتيا يحتاج إلى مراعاة لحال وبلد إقامة المدعو أو المستفتي؛ فقد يكون الداعية أو المفتي منتسبًا لمذهب معين، لكنه حال الدعوة والفتيا يذكر -أو يقرر- مذهبًا آخر من المذاهب المعروفة وفق المصلحة العامة أو الخاصة للمدعو والمستفتي.

 

والله من وراء القصد.

نُشر المقال يوم الأربعاء 29 أكتوبر 2025

إقرأ أيضًا

أحداث ومناشط قادمة

الأحدث

الأعلى مشاهدة

من معرض الصور