728 x 90

جعفر شيخ إدريس .. وقار العبقرية؛ وتواضع العلم، بقلم الدكتور نزار عثمان

جعفر شيخ إدريس .. وقار العبقرية؛ وتواضع العلم، بقلم الدكتور نزار عثمان
جعفر شيخ إدريس: وقار العبقرية؛ وتواضع العلم
ورحل الشيخ جعفر شيخ إدريس إلى دار البقاء؛ بعد حياة حافلة بالبذل والعطاء؛ أسأل الله أن يتقبله ويجزيه خير الجزاء.
كانت أول معرفتي بالشيخ رحمه الله عبر كتابه “نظرات في منهج العمل الإسلامي” كان ذلك عام 1983م تقريبا؛ كنت وقتها في المرحلة الثانوية؛ وكانت فيها بداية تعرفي على جماعات العمل الإسلامي؛ وكنت أناقش أخي الأكبر في بعض أمور الجماعات؛ فأحضر لي كتاب “نظرات في منهج العمل الإسلامي” وطلب مني أن أقرأه قراءة فاحصة وأفهم ما فيه؛ وبالفعل وجدته روضا أنيقا؛ أعجبني الكتاب؛ وأفادني في أمور عديدة وبصرني ببعض أدواء التنظيمات الدعوية مثل: الطاعة الشركية؛ وإلزام الفرد برأي الأغلبية؛ والشورى الزائفة؛ والعصبية ونحوها من أمراض التنظيمات. ونمى فيّ روح الاستقلالية في التفكير والتقدير؛ وكانت تلك طريقة الشيخ رحمه الله التي طبقها في حياته؛ حيث لم يترك الجبهة الإسلامية القومية رغم خلافه العريض مع الترابي؛ ولم يستتر في معارضة كثير من أفكار الترابي وسار في توازن؛ يتعاون فيما يراه صوابا؛ ويجهر بمعارضة ما لا يراه كذلك.. وكانت للشيخ في ذلك نظرة هي أن الانسحاب ليس حلا؛ والأولى الحفاظ على الصلة مع الجهر بالحق والعمل على إنفاذه بالأدوات الممكنة؛ ولعل مما يؤيد هذا ما حاكاه لي د. بسطامي محمد سعيد رحمه الله أنه عندما كان في المرحة الثانوية في بورتسودان قرر هو وبعض رفاقه أن يقدموا استقالتهم من الحركة الإسلامية لمواقف لم يستحسنوها؛ وأنهم استشاروا بروفسير جعفر في ذلك؛ فقال لهم: وهل تظنون أن استقالتكم ستجعلكم ـ في أعين العوام ـ بعيدين عن تبعات المواقف التي لم تستحسنوها؟ والله لو رآكم العوام تشربون الخمر؛ لما قالوا إنكم ضللتم بل قالوا انظروا إلى أعضاء الحركة الإسلامية يشربون الخمر؛ فكان ذلك سببا في عدولهم عن الاستقالة.
استقلالية الشيخ رحمه الله كانت مضطردة مع الجميع؛ الأكابر والأصاغر؛ فلا صواب عنده إلا ما كان له دليل شرعي صحيح أو عقلي مقنع؛ أذكر في هذا أنه كان يتحفظ على ورد الرابطة للإمام حسن البنا ـ رغم إجلاله وتقديره له ـ فيقول معلقا على دعاء البنا رحمه الله: (اللهم إنك تعلم أن هذه القلوب قد اجتمعت على محبتك، والتقت على طاعتك وتوحدت على دعوتك، وتعاهدت على نصرة شريعتك ..الخ) كيف لي أن أطلق هذا الإطلاق وأشهد أن الله يعلمه؟ كيف لي أن أعرف أن القلوب قد التقت على طاعته؟ واجتمعت على محبته؛ هل أستطيع أن أحكم على قلبي أنه كذلك؛ دعك من قلوب الآخرين!
وكان يعيب على الإخوان عدم استحداثهم لوسائل جديدة للدعوة؛ ويستدل لذلك بمقولة أعجبته من كلام الشيخ سليمان عثمان أبو نارو رحمهما الله؛ حيث قال أبو نارو: “البنا بعد سنوات قليلة من انطلاق دعوته كتب رسالته: دعوتنا في طور جديد” غير أن إخواننا هؤلاء ما زالوا بعد مرور عقود عديدة مصرين على الطور القديم.
في فترة الجامعة اقتربت من كتب الشيخ رحمه الله أكثر؛ ذلك لأني وجدت من يحدثني عن مجاهدات الحركة الإسلامية للنميري والأساتذة الذين أبعدهم أو آثروا الابتعاد عن التدريس في الجامعة في بداية حكم النميري عندما كان شيوعيا من أمثال بروفسير جعفر شيخ إدريس؛ ومحجوب عبيد وغيرهم.
أيام دراستنا الجامعية كان بروفسير جعفر في الجامعات السعوية؛ يأتي في الإجازة للسودان ويقدم محاضرات في أماكن متفرقة؛ وكنت حريصا على حضور تلك المحاضرات؛ وكان أبرز ما لاحظته فيه؛ أنه متواضع جدا؛ فرغم مكانته العلمية العالية إلا أنه لا يتضجر من مناقشة العوام؛ ومحاورة المتعصبين ضده .. لا تستفزه الكلمات ولا ينفعل بالتصريحات ولا التلميحات؛ ولعل متابعة الحلقات الحوارية التي أجراها معه الأخ الطاهر حسن توم تدلل على ذلك.
كذلك كان الشيخ رحمه الله واضحا مباشرا لا يجامل في الجهر برأيه والدفاع عنه. كما كان صاحب حجة قوية ومنطق سديد؛ ولعل تخصصه في الفلسفة أفاده في ذلك.
أول لقاء مصغر جمعني بالشيخ رحمه الله؛ كان في مركز الكلم الطيب للبحوث والدراسات في مكتب د. عصام البشير؛ ثم توالت اللقاءات بعدها؛ وعندما عاد الشيخ رحمه الله من السعودية واستقر بالسودان كان مكتبه مجاورا لمكاتبنا بصحيفة المحرر؛ ولإذاعة طيبة لاحقا؛ فكنت أقابله كل يوم وأحظى بفوائد متفرقة من هنا وهناك. وأذكر مرة أنه وجدنا نناقش ما أثاره البعض من أن من إعجاز القرآن العددي أنه فيه إشارة لأحداث 11 سبتمبر؛ أذكر أن الشيخ علق بكلمات موجزة نسف بها الفكرة تماما؛ حيث قال: وهل تظنون أن القرآن يعبأ بالتأريخ الميلادي حتى تكون في إشارات إلىه؟
أذكر أيامها أنه ناقشني في عمود كتبته في صحيفة المحرر فكدت أطير من الفرح و “كبرت كراعي من الفرح نص في الأرض ونص في النعال”؛ سعدت أن الشيخ رحمه الله اهتم ببعض ما كتبت.
زرت الشيخ في بيته في الرياض أكثر من مرة في تلك الفترة رفقة أحمد مالك رحمه الله وآخرين.
مما أذكره كذلك أنني في مطلع الألفية الثالثة أرسلت له نسخة من مخطوطة كتابي: النجاح مبادئ وخصال؛ وطلبت رأيه فيه؛ أرسلتها له عبر البريد الإلكتروني؛ فجاءني الرد الواضح الصريح كعادة الشيخ؛ أنه ليس متخصصا في هذا المجال ولا يستطيع أن يفيدني في كثير؛ والأفضل أن أطلب رأي المختصين. فأكبرت ذلك في الشيخ.
توثقت علاقتي بالشيخ جدا عندما عملت معه في منتدى النهضة والتواصل الحضاري؛ كان مكتبه في الطابق الأرضي؛ ومكتبي في الطابق الأول؛ وكنت أمر عليه جيئة وذهابا؛ في هذا القرب ظهر جعفر شيخ إدريس العابد الناسك؛ كان قريبا من القرآن؛ ولم يكن يترك صلاة المسجد قط؛ كان هناك مصلى في مبنى المنتدى؛ وكنا نحن الشباب نصلي في هذا المصلى لكن الشيخ كان يحرص على الصلاة في المسجد المجاور؛ وعندما أقام لنا درسا في مصلى المنتدى في شرح مقدمات كتاب الموافقات للشاطبي؛ كان يصلي في المسجد ثم يأتي لمصلى المركز ليقيم الدرس فيه. كان حريصا على وقته؛ محتويا لمن حوله في وقت معا؛ فلا يضجر من دخول عليه بغير إذن؛ ولا دعوته لمشاركة في برنامج دون تخطيط؛ كان يستجيب في تلقائية وبساطة إن كان في مقدوره المشاركة؛ أو يعتذر بلطف إن كان عنده ما يشغله. ولقد حضرت نقاشات ساخنة ارتفعت فيها أصوات بعضنا لكن الشيخ رحمه الله لم يرتفع له صوت ولا نبت له كلمة .. كان وقورا في غضبه.. كثيرة التبسم في رضاه.
مرض الشيخ وتوقف عن المحاضرات والنشاطات العامة منذ ما يقرب من عقدين من الزمان .. واختار الانتقال للملكة العربية السعودية مرة أخرى للاستشفاء؛ وصبر على المرض؛ ولم تنقطع صلته بالناس؛ ومما أذكره أنه في أحد مجالس الجمعة في بيت الأستاذ عبد الحفيظ عبد الرؤوف ذكر الأستاذ أحمد عبد الرحمن رحمه الله أنه كان في المملكة العربية السعودية؛ وأنه زارها لا لشيء إلا ليعود أخاه جعفر شيخ إدريس لأنه سمع بمرضه ودخوله المستشفى هناك… كان ذلك في عام 2013 تقريبا؛ فأنعم بهذا الإخاء وأكرم بذاك الحب.
الكلام في الشخ لا يوفيه حقه؛ وفقده خطب عظيم؛ أسأل الله أن يتقبل جهده وجهاده وينفعنا به.. والله خير وأبقى
خير من العباس أجرك بعده *** والله خير منك للعباس

إقرأ أيضًا

أحداث ومناشط قادمة

الأحدث

الأعلى مشاهدة

من معرض الصور