728 x 90

المصالحة الوطنية مقصد شرعي

المصالحة الوطنية مقصد شرعي

المصالحة الوطنية مقصد شرعي

 

بقلم: عادل المحروق

 

تتبوأ المصالحة مكانة رفيعة في صرح المقاصد الشرعية، والقواعد المعتبرة في الشريعة الإسلامية؛ إذ إنها مقصد من المقاصد التي عُني بها الإسلام وأرسى أطنابها في نفوس المسلمين، فأصبحت ضرورة حياتية، ومطلبًا شرعيًا، ومن دونها تهدر القيم، وتضيع الحقوق، ويعم الفساد، ويزداد العناد، وفي ظلّها تصان الحقوق، وتحفظ الكليات الخمس المتفق على حفظها وصيانتها بين سائر الملل والشرائع، فلا يمكن أن تصان المقاصد الأخر، كالحرية، والعدل، والكرامة إلا بإرساء السلام الذي هو ثمرة المصالحة، وأثرها العظيم.

إن الناظر في مدونات علماء المقاصد يجد أنهم ربطوها بالتنظير الاجتماعي، وتنظيم علاقاته، وجعلوها ذا غايات عملية تهم المسلمين في حياتهم الاجتماعية الراهنة، فغاية الشريعة الإسلامية هي مصلحة الإنسان كخليفة في المجتمع الذي هو منه، وكمسؤول أمام الله الذي استخلفه؛ على إقامة العدل والإنصاف، وضمان السعادة الاجتماعية، والطمأنينة النفسية لكل فرد في المجتمع، وهذا لا يمكن تحققه إلا في ظل التسامح والتصالح، وإهالة التراب على أسباب الفرقة والتقاتل.

لا جرم أن المقصد العام من التشريع هو حفظ نظام الأمة، واستدامة صلاحه، والمستقرئ لنصوص الشريعة الغراء الدالة على مقاصدها من التشريع، يستبين له من كلياتها وجزئياتها أن صلاح المجتمع والمصالحة بين مكوناته المتنازعة يتسنم سلم الأولويات، وأعلى المقاصد والغايات، كما قرر ذلك ابن عاشور، وقد تولد عن هذا المقصد الكلي العظيم جملة من المقاصد الفرعية التي أنهدها: السلام، والعدالة، والتسامح، والمساواة، حيث إنها تهدف جميعها إلى مقصد جليل به ينتظم شأن حياة الناس واستقرار شؤونهم، وصلاح أحوالهم.

ولأهميتها في تقرير مقصد المصالحة شدّد المشترع في الاعتناء بها وحفظها، وندّد بمن شطر عنها، ومن هنا أدرك أرباب المقاصد مكانتها وأهميتها فبسطوا الحديث عنها، فابن عاشور مثلا أفرد لها مساحة عريضة من مؤلفاته المقاصدية التي أقامها على ركيزة الإصلاح الاجتماعي.

لا يخفى أن المصالحة الوطنية من أهم الركائز الاجتماعية التي يتحقق في ظلها كثير من المقاصد الشرعية، وتصان وتحفظ في كنفها الكليات الخمس المتفق على حفظها، فالمقاصد في الإسلام على تنوع أقسامها واختلاف وسائل إثباتها ومستوياتها، تؤوب جميعها إلى مقصد كلي جامع عُبّر عنه بـ” جلب المصالح ودرء المفاسد” وهذا يلتقي مع ضرورة اعتبار مقصد المصالحة الوطنية، ويقودنا إلى إبراز جملة من المقاصد والحكم المتحققة في كنفها، ومن تلكم المعاني والحكم الملحوظة والمقاصد المعتبرة المتعلقة بمقصد المصالحة ما يأتي بيانه.

– مقصد تحقيق السلام: الذي هو من مقتضيات المصالحة وأس من أساساتها، ولأهمية هذا المقصد العظيم الذي نجم عن المصالحة، أفرد علال الفاسي في مقاصده حيزًا واسعًا للحديث عن أهميته، فجعله مقصد الإسلام الأعظم، وأوجب على المجتمعات الإنسانية جميعها الاتفاق الدولي العام على تحريم الحروب وإقرار السلام وضمانه، ومقاومة كل السبل التي تمس به وتؤدي إلى الحرب، ونادى بفرضية مقاومة كل تطاحن يقود إلى القتل في سبيل المال أو الفكر داخل المجتمعات، وحماية كل فرد أو جماعة أثناء قيامها بواجبها أو تمتعها بحقها، وقد ساق ابن عاشور جملة من الأدلة على هذا الأمر، ثم يذيلها بقوله:« فهذه أدلّة صريحة كلية دلّـت على أن مقصد الشريعة إصلاح هذا العالم وإزالة الفساد منه، وذلك فــي تصاريف أعمال الناس».

ومن مؤكدات الصلة الوثيقة بين المصالحة والسلام أن الله سبحانه سمّى الصلح سلمًا، فقال:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً( والسلم المسالمة والانقياد والتسليم، فيطلق على الصلح والسلام، وعلى دين الإسلام، وقد فسّره بعض المفسرين بالصلح، وبعضهم بالإسلام، وأيا كان؛ فإن أساسها الاستسلام لأمر الله والإخلاص له، ومن أصولها الوفاق والمسالمة بين الناس، وترك الحروب والقتال بين المهتدين به، واللفظ يشمل جميع معانيه التي يقتضيها المقام.

– مقصد إقامة العدل: لا قيام لمجتمع إلا بالعدل، ولا عدل إلا في ظل مصالحة تامة، قال ابن تيمية:« وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم: أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم؛ ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة؛ ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة» وقد تكرر ذكره في القرآن الكريم في كثير من المواضع، حيث أمر به سبحانه في جميع المعاملات وكافة المجالات، وفي مطلعها الحكم بين الناس الذي هو أساس بسط السلام وحصول الأمن فقال:) وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ( والعدل هو التسوية، وأطلقه هنا للدلالة على التسوية النافعة التي يحصل بها الصلاح والأمن.

ولأهميته أشاد الله سبحانه بالمجتمع العادل وقرّظ أهله قائلا:) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ( وقال تعالى:) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ( فالمتأمل لهذه الآيات يجد اتصالًا وثيقًا بين العدل والحق الذي يسهم في إرساء المصالحة والسلام وفرضهما على الناس؛ إذ هو المساواة بين الناس أو بين أفراد أمة في تعيين الأشياء لمستحقها، وفي تمكين كل ذي حق من حقه بدون تأخير، فهو مساواة في استحقاق الأشياء وفي وسائل تمكينها بأيدي أربابها.

ومن دلائل اعتبار مقصد العدل وأنه من المقاصد المركزية في الشريعة الإسلامية، تحريم الظلم، فالنصوص التي تأمر المسلمين بالابتعاد عن الظلم أكثر من أن تُحصى في هذا المقام، لكن الناظر فيها والمتعامل معها، ينجلي له أن في الشريعة الإسلامية نظامًا كاملاً، لإقامة علاقات اجتماعية بين مكونات المجتمع المسلم، على وجه تندفع به كلّ الأمراض، التي تَنْخر كِيَان مجتمعاتنا.

– مقصد حفظ الحقوق: لا ريب أن هذا المقصد من أجل المقاصد للإنسانية جميعها، وتزداد الحاجة إلي تحقيقه كلما عصفت بالناس المحن، وانتشرت فيهم الإحن، وطغا عليهم حب الذات والمصلحة الشخصية، مما أدى إلى هضم الحقوق وإهدارها، وتغليب مكّون الواجب على مكون الحق؛ من هنا أولت الشريعة الإسلامية لهذا المقصد عناية كبيرة، وأعطت كل ذي حق حقه، فكان في مطلعها حق الإنسان في الحياة، من خلال حفظ نفسه ماديًا ومعنويًا، فعصمت جسمه بجميع أعضائه من الإتلاف، كما صانت كرامته وأفكاره الذهنية، ومعتقداته الدينية، وكفلت له حقه الثقافي، والاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي، والمدني؛ بل إن الشريعة الإسلامية جعلت مقصد حفظ الحقوق المقصد الأول الذي ترجع إليه سائر المقاصد الأساسية، فالناظر للمصالحة في الإسلام يجدها تتغيا إخراج إنسان متحرر، ليس في جسده فحسب، وإنما متحرر أيضا في فكره ورأيه؛ لذا جعلت التعبير عن الرأي حق من جهة صاحبه، وواجب من جهة مصلحة المجتمع والناس كافة.

– مقصد الحفاظ على الجماعة ووحدتها: ليس بخاف أن الحفاظ على الجماعة من المعاني والحِكم الملحوظة للشارع في جميع تشريعاته؛ إذ الإسلام دين اجتماعي له دور ريادي في تحقيق مصالح الإنسان وحقوقه، فالجماعة والاتحاد لا تقوم في الوجود والواقع إلا برعاية وتحقيق المصالحة بين أطرافه المتنازعة.

إن اجتماع الناس وتقاربهم مظنة النزاع والتنافر؛ لما جبلت عليه النفوس من التنافس والتدافع بسبب اختلاف الأهواء، وتنوع الرغبات، الأمر الذي يفرض المصالحة والتوفيق بين تلك النفوس، وهذا ما أكدته النصوص القرآنية والنبوية الآمرة بوجوب ملازمة الجماعة، وما يلزم لها من المصالحة، وتجريم وتحريم مجهضاتها، قال تعالى: “وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا ‌وَلَا ‌تَفَرَّقُواْۚ”. 

 

إقرأ أيضًا

أحداث ومناشط قادمة

الأحدث

الأعلى مشاهدة

من معرض الصور