728 x 90

مقال بعنوان: حتى لا يكون التدريب تخريبا

مقال بعنوان: حتى لا يكون التدريب تخريبا

حتى لا يكون التدريب تخريبا، بقلم الكاتب: نزار محمد عثمان.

انتشرت مراكز التدريب في البلاد، وكثرت الإعلانات عن الدورات التدريبية في منصات التواصل الاجتماعي وفي الصحف السيارة، وتبع ذلك زيادة في عدد المدربين الزائرين لإقامة هذه الدورات. هذه الظاهرة ليست حكرا على بلد معين؛ بل في كل عالمنا العربي، إذ نلحظ اهتماما مقدرا بالموارد البشرية وتفعيلها عبر التدريب الأفضل والتوظيف الأمثل، ونحو ذلك مما تقرره نظريات الإدارة الحديثة.
على أرض الواقع هناك من يرى أن دورات التنمية البشرية هي السبيل لاكتساب المهارات وتحقيق الإنجازات وبناء المجتمعات؛ وفي المقابل هناك من يرى أن برامج التدريب المنتشرة هذه تنظير وأمانيّ لا تقدم في ارض الواقع شيئا؛ وهناك من يتوسط في الأمر؛ فما الموقف الصحيح من التدريب؟
الموقف من دورات التنمية البشرية:
من الواضح أن هناك قبولا كبيراً لدورات التنمية البشرية؛ لأسباب منطقية لخصها الأستاذ محمد حسن رمضان في كلمات قال فيها: لكي نعرف ما هو هذا السر ـ في حب الناس لدورات التنمية البشرية ـ يجب أن نبحث في الموضوعات التي يحب الناس أن يخاطبوا بها؛ وبمعرفة تلك الموضوعات يزال الغبار عن هذا السر الخفي؛ فما هي تلك الموضوعات إذاً؟

  1. الأحلام والأهداف: لا يوجد إنسان ليس لديه حلم أو هدف يسعى لتحقيقه؛ حتى وإن لم يكن لديه حلم أو هدف فإنه يأمل في ذلك في يوم من الأيام والتنمية البشرية ستحدثك كثيرا عن أحلامك وأهدافك مما تأنس به نفسك وتألفه ولا تأنف منه وتستنفره.
  2. المشاكل النفسية الشائعة: المشاكل النفسية كثيرة ومتعددة لكن التنمية البشرية لا تركز إلا على أعمها وأكثرها بين الناس حتى تجتذب إليها أكبر قدر من المحبين والمتابعين لها وهذه المشاكل مثل (صعوبة التواصل مع الآخرين؛ التحدث أمام العامة؛ التغلب على القلق والاكتئاب والغضب وكيفية التغلب على العزلة والانطواء … الخ) وتلك مشكلات قلما يسلم منها أحد.
    وعطفا على ما ذكر؛ فلا يستطيع أحد أن يقلل من أهمية التدريب في اكتساب المهارات؛ وفي التطور والتنمية؛ فالتدريب نشاط قديم ساهم في ازدهار الحرف والصناعات؛ وتقدم العلوم والاختراعات؛ وتقليل الأخطاء وحل المشكلات؛ وغير ذلك؛ لكن بالمقابل هناك محاذير كثيرة يجب أن تراعى في عمليات التدريب حتى تؤتي أكلها.

    محاذير في دورات التنمية البشرية يجب تجنبها:
    حتى لا يكون التدريب تخريبا يجب علينا أن نهتم بأمور؛ منها:

  3. النقل بوعي: وهذا من أهم الاحترازات التي يجب أن يهتم بها المخططون لهذه الدورات؛ فدورات التنمية البشرية مأخوذة في غالبها من الغرب؛ والأنفع أن نأخذ ما نحتاجه منها بعد تمحيص؛ ونقدم هذا المأخوذ في قالب واقعنا؛ ومن المخجل أن تجد بعض الدورات ليس فيها من جهد سوى الترجمة الحرفية؛ بينما تبقى الأسماء والصور والمواقف كما هي في اللغة المنقول عنها (الإنجليزية غالبا)؛ وأحيانا يتم تغيير الأسماء الأجنبية إلى أسماء عربية؛ وتستبدل الصور للشقر والبيض بصور لسحنات عربية؛ وتعدل المواقف قليلا لتبدو عربية .. وهذا لا شك مستوى أفضل؛ إلا أنه قد يكون خطيرا إذا لم يتحرك من منطقة الظاهر هذه إلى الباطن؛ أعني أن ينقل لنا التصورات الغربية والعقائد والأفكار المستوردة بلسان عربي وأسماء عربية وسحنات عربية؛ هذا أمر خطير جدا؛ وقد ظهر جليا في دورات مثل:
    ـ دروات البرمجة العصبية اللغوية: وهي خليط من الفلسفات والاعتقادات والممارسات تهدف إلى إعادة صياغة الواقع في ذهن الإنسان؛ وتقوم على مقدمات تخالف روح الإسلام (مثل رؤيتها أنه لا توجد حقيقة مطلقة، وإنما وجهات نظر، وأن الحق يتعدد فيمكن أن أرى أنا أمرا وترى أنت نقيضه ونكون جميعا على حق ونحو ذلك مما لا يسعه المجال).

ـ دورات التدريب على الريكي ( تمارين وتدريبات لفتح منافذ الاتصال بالطاقة الكونية “كي” وتدفيقها في الجسم؛ مما يزيد قوة الجسم وحيويته؛ ويعطي الجسم قوة إبراء ومعالجة ذاتية كما تعطي صاحبها القدرة على اللمسة العلاجية بزعمهم)

ـ دورات ا لتدريب على التشي كونغ (قريبة من الريكي في مفهومها)
ـ دورات التنفس العميق والتنفس التحولي: (تعنى بدخول طاقة البرانا إلى الجسم وتساعد على الدخول في مرحلة الاسترخاء الكامل الذي يعد مهارة لازمة لتمارين الفروع الأخرى من الرياضات
ـ دورات التأمل الارتقائي: (تمارين روحية من أصول الديانات البوذية والهندوسية تهدف إلى الوصول إلى النيرفانا: حالة الخلود النفسي والسكون التام والتخلص من المعاناة
ـ دوارت العلاج بخط الزمن؛ والقراءة التصويرية؛ والبايوجيومتري؛ والفيج شوي الفرعوني ونحو ذلك؛ ويدخل في هذا بعض الدورات التي أخذت أسماء إسلامية مثل دورات العلاج بطاقة الأسماء الحسنى؛ ودورات العلاج بأشعة لا إله إلا الله
وغير ذلك من الدورات التي تتفرع من هذه المفاهيم؛ ويصعب حصرها لأن أسماءها تتبدل من فترة لأخرى لكن تبقى مفاهيمها الأساسية واحدة.

  1. الاهتمام بتصحيح التصورات؛ وليس تقديم الوصفات السريعة: ذكر استيفن كوفي في كتابه المشهور “العادات السبع للأشخاص الأكثر تأثيرا” أنه درس ما كتب عن النجاح خلال 200 عام؛ فوجد أن التركيز في نصف القرن الأخير كان على النجاح المزيف: النجاح الذي يعتمد على الوصفات السريعة التي تحقق النجاح؛ وليس على تغيير التصورات التي تمثل الخريطة الصحيحة للنجاح؛ ولذلك كانت الكتب والدورات تعطي نجاحا ظاهريا قصير الأمد؛ بينما لو كان التركيز على تصحيح التصورات فالنتيجة ستكون نجاحا حقيقيا مستمرا لا يعود المرء بعده إلى حاله الأولى.
    وعليه فإن دورات التنمية البشرية التي تقدم الوصفات السريعة؛ دون أن تعنى بالمفاهيم والتصورات لا تخدم متلقيها لأنها تقدم نجاحا مزيفا.

3.التحقيق العلمي لا الافتئات على العلوم: فكثير من دورات التنمية البشرية تقوم على فلسفات ليس لها نصيب من التحقيق العلمي؛ وتستند إلى إحصائيات انتقائية متحيزة تعطي مظهرا علميا بينما هي في الواقع بعيدة كل البعد عن العلمية. هذا بالإضافة إلى أن كثيرا ممن تصدروا لهذا الأمر ليسوا من أصحاب الاختصاص؛ قال سامح عودة : إن هذه الدورات يلقيها مدربون عديمو الخبرة والأهلية وتفتقد للإفادة الحقيقية والموضوعية؛ إذ أن المحاضر يعمد من خلال الصيحات والهتاف والألعاب الحركية إلى إقناع الحضور

بمسلمات وبدهيات يصدرها في مظاهر العلوم؛ وأن تتبع شهادات كثير من هؤلاء المحاضرين يوصلك إلى أنها شهادات من جامعات غير معترف بها؛ وأن ثلاثة آلاف من الدولارات كافية للحصول على شهادة مماثلة خلال شهر واحد

4.مراعاة أثر البيئة في السلوك الفردي : فالملاحظ أن دورات التنمية البشرية لا تهتم بأثر المجتمع على الفرد؛ وتركز على السلوك الفردي بصورة أساسية؛ بل بصورة كلية تقريبا؛ وتتجاهل البيئة المحيطة بالفرد؛ والتي لا يمكنه الفكاك  منها تماما؛ بل قد تعرقله وتمنعه من المضي قدما في تحقيق أهدافه وغاياته؛ مع أنه لم يقصر في القيام بما عليه
كذلك فإن التركيز على السلوك الفردي يجعل هذه الدورات تتمحور حول الذات وتنمية “الأنا”؛ الغرور والأنانية؛ يقول رفيق حريش : إن الشخص البسيط الذي لم يحضر دورات في البرمجة العصبية اللغوية؛ أو في العلاج بحركات بؤبؤ العين او التحليل التفاعلي أو السوفرولوجي لكنه عاش محبا عطوفا على الآخرين؛ وكان خادما معطاء وغير أناني لا شك أن لديه قلبا أكثر نموا من المتخرج في العلوم الإنسانية؛ والذي بقي؛ ويا للأسف؛ متمحورا حول ذاته وأنانيا؛ وأغلب المواضيع في التنمية البشرية تتمحور حول الذات وتهتم بالتعامل مع الانتقادات الموجهة نحو الذات: كيف تكون الأنا في حالة إيجابية لتكون أكثر سعادة؛ تهتم بكيفية إدارة المشاعر الذاتية والتعرف على الأدوار التي من الممكن أن نلعبها في الحياة في إدارة وقتنا؛ وتحفيز وإثبات الذات؛ تنمية القدرات الذاتية؛ شفاء الذاكرة الذاتية؛ مسامحة الذات؛ ومسامحة الآخر؛ المصالحة مع الماضي الشخصي؛ التعرف على الذات؛ محبة الذات … لكن محورية الذات تشكل عائقا لأنها تنمي الأنانية والنرجسية؛ وهذا ينطبق أيضا على تقنيات التنمية التأملية المستوحاة من ديانات الشرق الأقصى
وليت دورات التنمية البشرية تهتم بتطوير الإنسان بوصفه إنسانا؛ لكنها تفعل ذلك فقط من أجل المنفعة المادية التي سيدرها الإنسان العامل بعد تطويره

بالشكل المطلوب؛ ف” في عالم التسارع والتسابق نحو تحصيل الثروة وشيوع الرؤية الفردانية كان لابد من ظهور المناهج العلمية التي تمكن الفرد من استغلال أقصى طاقة وبذل أعلى مجهود حتى يجد موطئ قدم في ساحة منافسة لا ترحم إلا الأقوياء لتشيع بعدها مقولات استغلال القدرة وعدم إهدار الجهد في السكر مثلا والسهر والرقص؛ والتي تبدو على موافقة مع القيم والأخلاق الحسنة إلا أن المقصود بها في جوهرها توفير الجهد لدى العمال والموظفين بحيث لا يبدد إلا فيما يصب في جودة المنتج لأجل أن توافي حاجة المستهلك”

  1. تقديم التنمية البشرية على أنها مبادئ غالبة وليست حتمية لازمة: فالمشاهد أن أصحاب التنمية البشرية يقدمونها باعتبارها حتميات لازمة؛ وليست مبادئ غالبة التحقق؛ وفي هذا مجازفة تفتقر إلى الدقة فليس معنى أن المرء فعل كذا وكذا أنه سيصل حتما لمراده
  2. الواقعية والابتعاد عن المبالغة: الملاحظ أن كثيرا من دوارات التنمية البشرية فيها مبالغة سواء في إثبات الشيء أو انكاره؛ ولعل سبب ذلك أن من يقومون بهذه الدورات يحرصون على رفع الروح المعنوية للأفراد؛ ويسردون قائمة من الإنجازات التي ستتحقق من هذه الدورات فيدفعهم هذا إلى المبالغة في نتائج ما يقترحونه من آليات ومهارات ووصفات؛ ولو تواضعوا قليلا وقالوا: الغالب أن يحصل كذا وكذا لربما كان الأمر معقولا وصائبا.

والمقام لا يتسع لاستقصاء كل محاذير التنمية البشرية؛ هذا مع التأكيد على أهمية العناية بها والاستفادة مما تقدمه من منافع مستصحبين في ذلك التركيز على المفاهيم التي يقوم عليها التدريب؛ وكيف تؤثر على التصورات ومن ثم السلوك؛ فهذا هو لب الأمر؛ والله الموفق

إقرأ أيضًا

أحداث ومناشط قادمة

الأحدث

الأعلى مشاهدة

من معرض الصور