بقلم الأستاذ: محمد إلهامي.
تكلمنا في المقال الماضي عما إن كان التاريخ علما أم فنا، وذكرنا الأقوال في ذلك، على أن فائدة هذا التصنيف قليلة في باب العمل، وأما ما ينبغي أن نتوقف عنده ونتأمل فيه، فهو موضوع هذا المقال، وهو: فلسفة التاريخ.
إن التاريخ سواءٌ أكان علما أم فنا فهو مجموعة من المعلومات التي يمكن فهمها وتفسيرها بأكثر من طريقة، ولهذا فهو في حاجة إلى التصور وإلى الرؤية التي تفسره وتربط بين أجزائه في نظام وهيئة ليكون صورة واضحة ومعنى مفيدا، وهذا ليس شأنا خاصا بالتاريخ بل هو متعلق بسائر العلوم بما في ذلك العلوم التطبيقية([1])، وهذا التصور العام يُطلق عليه «فلسفة العلم»، ولبيان المسألة نضرب مثاليْن:
الأول: لقد تأسس علم الاقتصاد المعاصر على مبدأ الندرة، وهو: «الموارد محدودة والحاجات غير محدودة»، وهذا المبدأ هو نتيجة طبيعية لرؤية الحضارة الغربية المادية العلمانية التي ترصد زيادة سكانية دون أن يقابلها زيادة في الموارد الطبيعية، ومن ثَمَّ فإن مهمة علم الاقتصاد «إدارة الموارد المحدودة لإشباع الحاجات غير المحدودة»، وتطبيقا لهذا المبدأ يمكن لهذا العلم أن يُنتج نظرياتٍ تحبذ الحروب والإبادة والهيمنة الظالمة على موارد الشعوب الضعيفة وتعمل على إضعاف النسل بنشر وسائل العقم أو تأخير الزواج أو تحبيذ ضعف الإنجاب أو تعمد إفقار العُمَّال والطبقات الضعيفة، وكل هذا قد كان بالفعل وهذه النظريات تُدَرَّس ضمن النظريات الاقتصادية([2]).
بينما يتأسس علم الاقتصاد الإسلامي على مبدأ آخر مناقض يقول: إن الله الذي خلق هذا الكون حكيم عليم خبير قدَّر كل شيء فأحسن تقديره، ﴿إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ بِقَدَرٖ ٤٩﴾ [القمر: 49]، فالموارد التي خلقها الله تكفي لإشباع الحاجات كلها، فإذا ظهر الفقر والفساد فإنما هو بسبب الظلم والبغي ﴿ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِي ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعۡضَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ﴾ [الروم: 41] ويكون الحل في اتباع نهجه ﴿لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ ٢٧﴾ [الأحقاف: 27]، ثم إن فضله لا ينفد وبيده خزائن السموات والأرض ينعم بها على من اتبع هداه ﴿وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡقُرَىٰٓ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوۡاْ لَفَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ﴾ [الأعراف: 96]. ولهذا تنطلق فلسفة الاقتصاد الإسلامي من أن الموارد كافية ووافرة ومؤهلة للزيادة والنماء بفضل الله، إلا أن هذا يتوقف على العمل والجد مع الإيمان والتقوى.
وهكذا يظهر أن الرؤية والفلسفة والتصور يؤثر بوضوح على فهم المعلومات المتوفرة، واختيار الحلول الممكنة.
الثاني: كذلك فإن العلوم البحتة التطبيقية، كالهندسة والكيمياء والفيزياء وغيرها، تحتاج إلى رؤية لأنها لا تتطور من تلقاء نفسها ولكن تتطور تحت ضغط الحاجة، وهذه الحاجة تحددها الرؤية والفلسفة المهيمنة، فمثلما يجري العمل على اكتشاف الأمصال التي تكافح الأمراض يمكن أن يجري العمل على تصنيع الأسلحة الكيميائية التي تسبب عذابا شديدا وخرابا شاملا، ومثلما يمكن استعمال الطاقة النووية في إنارة المدن المظلمة يمكن استعمالها في تدمير المدن الحية، إن الغاية تحدد الطريق الذي يسلكه التطور العلمي، وإن المبادئ تحدد الضوابط الحاكمة لاستعمال العلوم. وموضوع «الغاية» و«الأخلاق» ليسا موضوعيْن علمييْن، بل هو موقف ديني فكري فلسفي، فإذا انتفى الإيمان بالله فلا معنى للغاية ولا معنى للأخلاق، وساعتها ستكون المنفعة واللذة والغريزة هي الإله، ويكون قتل الملايين عملا عاديا، إذ لا معنى للخير والشر في العقيدة العلمانية، فالإنسان نفسه هو مجرد خلايا وتفاعلات كيميائية بلا أية كرامة، لأن مفهوم الكرامة نفسه هو مفهوم ديني فكري فلسفي وليس حقيقة مادية جرى اكتشافها علميا، وإذا لم يكن للإنسان كرامة واحترام، فإن مسألة إحيائه أو قتله أو إيذائه تساوي تماما التعامل مع قطعة من الخشب أو الحديد لا فرق، وفي هذه الحالة فالكفاءة العلمية والتطور التقني سيُقاس بقدرته على تحقيق الهدف المادي بأقل تكلفة وبأقصى استعمال للمادة أو للبشر، فالبشر أنفسهم ليسوا أكثر من مادة.
لقد استعارت العلمانية الغربية المعاصرة أسطورة يونانية قديمة خلاصتها أن الإله يُخَبئ العلم عن الإنسان لأن العلم هو ما يجعله أقوى، وأن رحلة البشرية هي محاولة سرقة هذا العلم، فكل اكتشاف علمي هو خصم من رصيد الإله وزيادة في رصيد الإنسان، حتى تأتي اللحظة التي يكتشف فيها الإنسان كل قوانين العلم فيصير إلها قادرا على التحكم الكامل في الكون. إن هذه الرؤية تناقض تماما الرؤية الإسلامية التي ترى أن العلم هو نعمة من الله لعبده يهبها له، وأنه مهما ازداد من العلم فهو ضئيل بالقياس إلى علم الله، وأن هذا العلم يستلزم شكر المُنْعِم بالتزام أوامره واجتناب نواهيه وذلك باستعماله في عمارة الأرض وإقامة العدل ودفع الظلم، وأن كل هذا هو موضع حسابٍ في الدار الآخرة([3]).
بتطبيق هذا على مجال التاريخ، فإن التاريخ، كما أسلفنا، هو مجموعة غزيرة من المعلومات التي يمكن تفسيرها بأساليب ونظريات متعددة وكثيرة. إن النظرية في حقيقتها وثبة عقلية تحاول رسم سياق ناظم للعديد من المعلومات، ومن هنا كانت كل نظرية فلسفية لها قراءتها المختلفة للتاريخ، فالنظرية القومية التي ترى الناس من خلال قومياتهم تفسر التاريخ باعتباره صراعا بين الأجناس وتقسمهم إلى أجناس عليا وأجناس دنيا، والنظرية الماركسية ترى الناس من خلال مواقعهم في الطبقات الاجتماعية والعلاقات الاقتصادية فهي ترى التاريخ باعتباره تاريخ الصراع بين الطبقات تحركه الدوافع الاقتصادية، وهكذا..
وهنا تبدو بوضوح علاقة التاريخ بالهوية، فكل هوية لها قراءة مختلفة وتفسير مختلف للتاريخ، ولا يملك الإنسان أن يعيش بلا هوية، فإن لم تكن له هوية يعتنقها عن قناعة فإنها تُصنَع له ويُحمل عليها بواقع المجتمع الذي هو فيه، إذ «الفَرْقُ أمر ضروري للإنسان، فمن لم يكن فَرْقُه قرآنيا محمديا، فلا بد له من قانون يفرق به: إما سياسة سائس فوقه، أو ذوق منه أو من غيره، أو رأْيٌ منه أو من غيره، أو يفرق فرقا بهيميا حيوانيا بحسب مجرد شهوته وغرضه أين توجهت به، فلا بد من التفريق بأحد هذه الوجوه»([4])، وإن شاء الله سنأتي لنقاش علاقة التاريخ بالهوية والتأثير العظيم لهذا الأمر لدى حديثنا عن أهمية التاريخ في الدعوة والإقناع.
ولكن المقصود الآن، أننا نحن المسلمين نستقي منهج التفسير من الوحي، القرآن والسنة، وفي ضوء هدايتهما نقرأ التاريخ ونفهمه، وهذا يعصمنا من كثير جدا من الخلط والتشوش الناتج عن قراءة التاريخ في ضوء الفلسفات الوضعية الكثيرة والمتضاربة، وهو يوفر علينا أعمارا متطاولة من الجدل والنقاش والبحث عن الثوابت والأصول التي تمثل أساس الفهم والحركة، وسيأتي معنا في هذا الكتاب أمثلة توضح هذا، كذلك فإن استنادنا للوحي يُحَوِّل قراءتنا للتاريخ إلى حركة عملية وهداية لها ثمرتها الواقعية، إذ العلم في ديننا يُطلب للعمل لا للجدل.
وإذا استقر هذا، فثمة سؤال يأتي هنا: عن الفارق بين «التاريخ» و«الحضارة»، وماذا يؤثر هذا في فهمنا لصفحات الماضي.. فذلك إن شاء الله تعالى ما نتناوله في مقالنا القادم.
([1]) انظر: أسد رستم، مصطلح التاريخ، ص154 وما بعدها.
([2]) انظر أمثلة على هذا في: ول ديورانت، قصة الحضارة، 42/251 وما بعدها، 42/381 وما بعدها؛ رونالد سترومبرج، تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، ص338؛ رشيد الحمد ومحمد سعيد صباريني، البيئة ومشكلاتها، ص112؛ جان ماري بيلت، عودة الوفاق بين الإنسان والطبيعة، ص27.
([3]) للمزيد، انظر: ول ديورانت، قصة الحضارة، 6/188؛ المسيري، رحلتي الفكرية، ص503؛ محمد قطب، واقعنا المعاصر، ص89؛ محمد إلهامي، نحو تأصيل إسلامي لعلم الاستغراب، ص62 وما بعدها.




















اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *