تقدير موقف بعنوان:
(( حفتر في أفق انسداده ))
بقلم: عبد الله الكبير.
الصورة معبرة أكثر من ألف كلمة، كما يقول المثل الصيني الشهير، لأنها أقدر وأكثر فعالية على توصيل الفكرة وتوضيحها من الوصف بالكلمات، ومتى كان وعي المتلقي متقدما لن يحتاج لمن يشرح له تفاصيل الصورة ورمزيتها والزوايا الخفية فيها ودلالاتها. صورة واحدة كانت كافية لقراءة دعوات حفتر لتفويضه حاكما لليبيا، ونتائجها، ومآلاتها.
ناشطة سياسية عرفت بتأييدها المطلق لحفتر تقف في صدر الميدان، وبجوارها صبي يجاهد لإظهار وجهه تحت صورة لحفتر يحملها بعناء واضح فوق رأسه، ويمتد الميدان خلفهما فارغا إلا من بعض المارة العابرين، أو الذين جاءوا بدافع الفضول ليروا عن قرب فصول وأحداث آخر مسرحيات حفتر الهزلية، عندما تكلمت الناشطة داعية مدن الغرب الليبي إلى الخروج لتفويض حفتر كشفت عن تساقط أسنان القواطع الأمامية، وهو عارض طبيعي تتعدد أسبابه، الصورة في مجملها لخصت مشهد سيناريو التفويض البائس.
الأسنان المهشمة والمتآكلة والمتساقطة تعكس خوار قوة حفتر وانهيار قدراته على شن الحروب والإسراف في قتل شعبه، فما عاد بقدرته القطع والتمزيق وطحن العظام، كما فعل في سنوات سابقة، والضبط الدولي يمنعه من إغلاق قطاع النفط أو التهديد بإغلاقه، انحناءة الصبي تعكس ثقل حمل صورة هاربة من زمن قديم تريد أن تعلو في عصر مختلف لا يحتفي بالبزة العسكرية والنياشين، سواء كانت حقيقية أو مزيفة، والرمزية هنا عن مكابدة الأجيال الجديدة مع ديناصور عجوز من زمن غابر مهووس بالسلطة، يعمل بلا كلل ولا ملل على محو ماضيه المترع بالدماء والخيانة والغدر والهزائم فيغرق في المزيد منها، وفيما يكابد الصبي عناء حمل الصورة عاليا يسعى في نفس الوقت ليبرز وجهه تحت الصورة، على قدر هذا العناء يقع ثقل حفتر ومشروعه المرهق لليبيين، ويتسرب وقت الصبي في عبث لا طائل من ورائه، كرمز لجيل كامل ولد ونشأ واشتد عوده في عصر الاتصالات المفتوحة والتقنية المتطورة والذكاء الاصطناعي، وما تفرضه من تحديات غير مسبوقة، وانكشاف لكل ما كان مغلقا في العقود الماضية، ورغما عنه وعن براءة أحلامه، يريده الذين استسلموا لشهواتهم وغرتهم الأموال والمناصب أن يبقى تحت حذاء حفتر وجلاوزته، أما فراغ الميدان الفسيح، والصمت المخيم على جنباته، فهو رسالة أغلبية ترفض بالعزوف والصمت هذه المساخر، آثروا لزوم منازلهم وحياتهم ولم يلتحقوا بالقلة الراقصة على خيباتها، وتلك التي حضرت خوفا أو طمعا أو تلقت تعليمات في مواقع عملها من قياداتها بارتداء الملابس المدنية والمشاركة في حملات التفويض. الصمت والفراغ في المساحة الأكبر في الصورة يقول للمفوض: لن تقبض غير الريح.
ماهي الخطوة التالية؟ فليس من الوارد استسلام حفتر وقبوله بالحقيقة رغم مراراتها، والتفكير في المغادرة بأخف الأضرار، فهو قائد مزيف وغير حقيقي، وليس من سلالة قادة كبار أذعنوا لإرادة الشعوب، إذ غادر تشرشل المنتصر في الحرب العالمية الثانية عندما خسر الانتخابات، وعاد ديغول بطل تحرير فرنسا من النازية معتكفا في منزله بعد خسارته للاستفتاء، لذلك سوف يمضي في التصعيد حتى نهاية لم تعد بعيدة، بل تزداد سرعة اقترابها بعد هذه فضيحة التفويض الكاذب المدوية، وكعقاب مبدئي على تجرأ الناس بعدم الاستجابة لتفويضه، أغلق المدارس وعطل الإدارات المدنية، ومن المحتمل أن تكون خياراته التالية خطيرة ومصادمة للقوى الكبرى، التي باتت رؤيتها أقرب إلى فرض الاستقرار حتى مع استمرار حالة الانقسام، والعمل على ضبط الإنفاق وتوحيد المؤسسات المنقسمة، ودعم البعثة الأممية. فمثلما يعود التاجر المفلس إلى دفاتر ديونه القديمة، قد يعود حفتر إلى استخدام ورقة النفط، وقد يصعد أكثر بإعلان الحكم الذاتي في مناطق نفوذه، وقد ورد هذا الخيار صريحا بدون مواربة في بيان حكومته، وبالرغم من خطورته على وحدة البلاد، فإن التلويح به في بيان رسمي يعني عدم استبعاد تنفيذه إذا كانت الخيارات الأخرى غير مجدية، فالمقامرة أفضل بكثير من مصير مظلم ينتظره هو وجلاوزته إذا استمر تآكل سلطته وتقلص نفوذه.
حالة الارتباك التي سادت عقب فراغ الميادين طالت مجلس نواب حفتر إذ صدر بيانان الأول باسم عقيلة صالح رئيس مجلس النواب يطالب فيه بضرورة الإسراع بإجراء انتخابات رئاسية، أعقبه بيان لنائبه يدعو فيه إلى إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، وفي اليوم التالي بيان باسم المجلس يؤيد بيان عقيلة، ما يؤكد ما يتوارد من أنباء عن انقسامات داخل المجلس ووقوعه تحت تأثير وضغوطات متباينة من أبناء حفتر.
الجمعة 28 نوفمبر 2025 لم يكن يوما عابرا في مسيرة الشعب الليبي، فيه سقطت الأكاذيب، وفيه وصل حفتر إلى أفق انسداده، وسيكون علامة على بداية نهاية مشروعه وانكفائه، وإذا زاد جنوحه وجموحه و إجرامه فهي من الظواهر الطبيعية للنهايات، فاقتراب أي ظاهرة من نهايتها يجعلها تتوهج وتنتفض بقوة غير معتادة في مراحلها السابقة. النجم العملاق يضاعف من حمم احتراق غازاته فيتعاظم سطوعه في زمن احتضاره قبل أن يتحول إلى ثقب أسود، وعاليا ترتفع ألسنة لهب النيران قبل الانطفاء، ويهتز الذبيح ملوحا بقدميه وقد ينهض ويجري قبل أن يخمد، ومن علامات الفجر شدة الظلام في الهزيع الأخير من الليل.



















