بقلم: د. نزار كريكش.
عندما اجتمع جمع من الفيزيائيين وعلماء الرياضيات ورهط من الفلاسفة والمناطقة في مقهى من مقاهي فينا أسسوا ما عرف بدائرة فينا هذه الدائرة غيرت العالم بالمعنى الحرفي للكملة، قاوم هؤلاء كل الفلاسفة في القرن التاسع عشر من كانط إلى فولتير مرورا بديفيد هيوم وديكارت، لم يعد شيء من تلك المسلمات يعجبهم، أو يرضي عقولهم، بدأوا في الحديث عن الرياضيات كأساس للمنطق، والفيزياء كأساس للمعرفة، والتجربة كطريق وحيد للحصول على المعرفة، لم يعد للشعر ولا للنثر أو الروح أو الخواطر أي مكان في منطق العلم. دائرة فينا هي الفلسفة التي حكمت القرن العشرين.
ومن أبرز أعضاء دائرة فيينا يمكن ذكر موريتس شليك، رودولف كارناب، أوتو نيورات، بالإضافة إلى كورت غودل، وكارل مانهايم. كان لها صلة بأينشتين، وتيودور هيرتزل، وكارل بوبر، وفينجشتين وغيرهم كثير، وما أن احتلت النازية فيينا حتى انتشروا في آفاق الأرض وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية ليصبح البروتوكول العلمي الذي وضعته للبحث هو أساس البحث العلمي في الجامعات إلى اليوم. في ذلك السياق، اختلفت الفلسفة الوجودية وأسئلتها الخالدة: من أين جئنا، وإلى أين نمضي، وماهو الطريق الذي سنسلكه؟ هايدجر، في فلسفته، عاد إلى سؤال الوجود، كما أن الانتكاسات التي عاشها العالم بعد مآسي الحرب العالمية الثانية أعادت التفكير الوجودي في صورة مغايرة هي الفلسفة القارية أو ما بعد الحداثة. حيث ركز هؤلاء على أن المعرفة أساسها الإنسان نفسه ومشاعره والمخاطر التي يعيشها والمجتمع الذي يغرس فيه ثقافته. أي أن الحداثة أنتجت الموضوع، وما بعد الحداثة ركزت على الذات. وفي الأخيرة، تعود أسئلة الوجود من حيث هي فطرة تلازم الإنسان، حتى وإن تناساها بفعل السلطة والبحث عن لقمة العيش وزخم الحياة.
هذه الفلسفة لم تستطع أن تصل بين سؤال المعرفة وسؤال الوجود، لذا كانت فلسفة القرن الحادي والعشرين أكثر جدية. وكانت فلسفة التعقيد لإدغار مورين الفرنسي، والفلسفة التكاملية لكلين ويلبرالأمريكي، والفلسفة النقدية الواقعية لروي باسكار الإنجليزي. هؤلاء الثلاثة يشكلون ما يعرف بفلسفة ما فوق النظرية، فإن الأطر التي وضعوها تجاوزت النظريات الفلسفية لتكون قواعد عامة للمعرفة والنظر لى الكون والتاريخ، سواء بالبحث عن التركيب والتشبيك في العالم، أو بتكامل الحضارات والمعارف عبر التاريخ، أو الأهم هي نظرية روي باسكار حين وضع طبقات للمعرفة تنتهي بالمطلق الوجودي الذي لايمكن لنا أن نعرفه، وهذا الأقرب للرؤية الإسلامية كما كتب عن ذلك تلميذ روي باسكار الفيلسوف المسلم ماثيو ويكنسون.
السياق القرآني في قسم المثاني يمكننا أن نسميه فقه الحياة أو طبع الوجود، خاصة في السور من العنكبوت لسورة يس. في هذه السور تأتي سنة الابتلاء لتكون هي الطابع العام للحياة، بتقلباتها وتبدلاتها، وهذا كما يبين السياق له رابط وثيق بظاهرة الخلق، فإن قصة إبراهيم في سياق سورة العنكبوت أثارت جدلاً واسعاً بين المفسرين حول مغزى قوله تعالي بعد الحديث عن مواجهة إبراهيم لقومه ( أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ كَيۡفَ يُبۡدِئُ ٱللَّهُ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥٓۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ (19) قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ بَدَأَ ٱلۡخَلۡقَۚ ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِئُ ٱلنَّشۡأَةَ ٱلۡأٓخِرَةَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ (20) يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرۡحَمُ مَن يَشَآءُۖ وَإِلَيۡهِ تُقۡلَبُونَ (21) وَمَآ أَنتُم بِمُعۡجِزِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِۖ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٖ (22) وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَلِقَآئِهِۦٓ أُوْلَٰٓئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحۡمَتِي وَأُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ (23) ) فهل هذا الحديث جاء من إبراهيم عليه السلام أم هو رد من الله على تكذيب قومه له، لكن السياق القرآني لأول مرة تقريبا يتحدث عن ظاهرة الخلق في سياق القصة نفسها، والأمر الآخر الذي تثيره الآيات هو الحديث عن أولئك الذي يئسوا من رحمة الله في هذا السياق، وهذا ما يسمى في علوم الإدراك بالروابط البعيدة، وهو أحد الاختبارات والنظريات المعروفة لدى العارفين بنظريات الإبداع، فالروابط التي يخلقها القرآن في عقل القاري تبدو بعيده لكنها كالفتح لنماذج معرفية قد لاينتبه لها الإنسان وهذا هو معنى الهداية. السياق واضح بأن رحمة الله التي يخلق بها واقع جديد والتي هي جوهر الإيمان وحقيقة الابتلاء تترابط بشكل يجعل الإيمان بإمكانية التغيير عنصر أساسي من هذه الحياة، بمعنى أوضح الحياة تطرح أمامنا أسئلة كثيرة، وتجبرنا الظروف على مواجهة المصاعب التي تتناقض مع معتقداتنا (كأن يرفض أبويك معتقدك كما هو سياق السورة)، لكن الإيمان بأن الخلق نشآة مستأنفه وطابع من طبع الوجود يجعل اليأس نقيض للإيمان ومظهر من مظاهر الفشل في امتحان الحياة.
هذا المعنى يتأكد بعد ذلك من خلال سياق سورة العنكبوت؛ لكن سورة الروم تؤكد أن هذا هو نمط الحياة بين سراء وضراء وهذا ظاهر في سورة الروم بشكل لافت وتكاد تكون السورة شرحاً لهذا المنحنى، في التاريخ في المعركة الكبرى بين الروم والفرس، إلى الظواهر المختلفة التي ذكرتها السورة في صحونا ونومنا، واختلاف الناس، وانتظار الرحمة والمطر، والموت والحياة، وهكذا نحن في هذه الدنيا نمضي فوق موجها، تتلقفنا أسئلة الوجود ويمحص التاريخ جوهرنا وحقيقة إيماننا. معادن الرجال تظهرها الأحداث والمواقف، ونمط الحياة السيني هذا، بين سراء وضراء، هو من طبع الوجود، لذا فإن الأسئلة الوجودية لا تكمن فقط في الأجوبة عن سؤال الخلق، بل يؤكدها ويجذرها في الوعي الذي ينشئة القرآن طبع الدنيا نفسها وتقلبها. هذا ما رسخه القرآن في عقول المسلمين، أن الدنيا متاع وأنها ليست بدار مقر واستقرار.
في علوم المستقبليات، بدا هذا الأمر كجزء من نظرية كبرى تتعلق بالربط بين الانفجار العظيم، النظرية التي يعتقد العلماء أنها بداية الكون، وبين مسار الأحداث. فإن المستقبل جزء من هذا الخلق، لأن كل ما في هذه الدنيا هو جزء من كل، لأنه مصدره في النهاية واحد. لذا، فإنهم في عمق فلسفتهم يرون أن كل شيء يتنفس حتى التاريخ والمجتمعات. لقد بين السياق القرآني أن المسار الصحيح تجاه هذا النمط المتموج للتاريخ والحياة هو الحكمة التي تقتضي وجود منهج واتباع يمنع صانع القرار من الانصياع وراء اللحظة وكأنها نهاية الدنيا. هذا ما يمكن فهمه من سورة لقمان والسجدة، فسياق الحكمة والهداية فيهما واضح، وفيهما كذلك مواقف الناس من تقلب الدنيا، وأن وجود سياسة واضحة لاترتبط باللحظة بل بالمسار الكلي هو حقيقة الإيمان الذي يفتح أمام المرء باب الإمكان على مصراعيه، كما قال تعالى: (وَلَوۡ أَنَّمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ مِن شَجَرَةٍ أَقۡلَٰمٞ وَٱلۡبَحۡرُ يَمُدُّهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦ سَبۡعَةُ أَبۡحُرٖ مَّا نَفِدَتۡ كَلِمَٰتُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ) (27)
بعد ذلك تأتي سورة الأحزاب لتضع كل ذلك في تجربة واقعية من حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنت إذا تأملت سياق السيرة في القرآن الكريم ستجده يوظف ليضع السيرة وحياته صلى الله عليه وسلم في سياق قرآني أكبر. هذا شأن آخر نأتي عليه في مقالات أخرى، لكن سورة الأحزاب تؤكد معنى الابتلاء، حين جاءت الأحزاب من قريش ومن والاها للقضاء على المدينة المنورة. هنا عادت سرديات قديمة حين قال المنافقون: يا أهل يثرب لم تعد المدينة المنورة، وبدأوا في التشكيك في كل شيء، ونشر الشائعات والمعلومات المضللة، وآذوا المؤمنين، وشككوا في نزاهة النبي صلى الله عليه وسلم. يعبر القرآن عن أجواء تلك الحادثة فيقول: (هُنَالِكَ ٱبۡتُلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَزُلۡزِلُواْ زِلۡزَالٗا شَدِيدٗا). (11)
إذا فالأسئلة الوجودية جوهر المعرفة وليست منفصلة عنها، فلابد من نظرية سابقة عن كل النظريات، تلك النظريات ترسم لوحة الوجود وتعطي للتاريخ معناه، أما اللوحة فهو في هذا الموج المتلاطم، وأم المعنى هي تلك الأسئلة التي نجيب عليها بمواقفنا وسلوكنا في هذه الحياة، لذا فإن سورة سبأ تبين ذلك في صورة سليمان عليه السلام واتساق الإيمان بحركة الحضارة والتقدم، حين تمضي الحضارة في نسق متصاعد يقاوم تلك التقلبات، رغم أنها تخضع دون شك للآجال والأزمان، فسليمان عليه السلام لم يخلد على كل حال، لكن صورة أخرى وهي حضارة سبأ عاشت ذلك التقلب بين جنتين عن يمين وشمال، وبين السدر والأثل وضيق العيش، ليذيل القرآن عن كل ذلك بقوله (وَمَا كَانَ لَهُۥ عَلَيۡهِم مِّن سُلۡطَٰنٍ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن يُؤۡمِنُ بِٱلۡأٓخِرَةِ مِمَّنۡ هُوَ مِنۡهَا فِي شَكّٖۗ وَرَبُّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٍ حَفِيظٞ (21)، هذا هو جوهر التاريخ وهذه هي سنة الابتلاء التي ينبغي أن تفهم كنموذج معرفي لفهم الحياة وليس مجرد تفسير لبعض المصاعب التي تصيب الناس. يمضي سياق السورة ليبين أن الإيمان والنجاة في امتحان الدنيا لا يرتبط بالإمكانات المادية بل بالقدرة على تجاوز الحاضرة والإيمان بالمستقبل والغيب، وهذا ما جعل سورة فاطر تؤكد أن وراثة الأرض والاستدامة للحضارة هو جزء من سياق كوني أوسع يرتبط بعمارة الأرض وحياة الأمم وهذا ما يسطره التاريخ في صحائفه كما في سورة يس.
إن سؤال الوجود الذي يؤكده القرآن يبين أن الخلق جزء من حياتنا اليومية، الصباح خلق جديد، الفرح خلق جيد، الحزن خلق جديد، الواقع لانفك يفاجئنا، فلو أن ما في الأرض من شجرة هو حبر أقلام الرواة لما وسعتهم الدنيا من كتابه تاريخها وانتظار مفاجأتها، تلك هي الأنطولوجيا التي تحكم المعرفة بل تحكم مصير الإنسان الذي يصر على الخلود وينسى التحولات الكبرى التي نراها كل يوم، أليس عجيباً أنه من الشجر الأخضر تنشأ نار هي معارك الطاقة التي يعيشها العالم إلى اليوم!.


















اترك تعليقاً
يجب أن تكون مسجل الدخول لنشر التعليق.