بقلم: فرح المجدوب.
ما أشد ما تتزاحم المعاني في هذا الزمان، حتى كأنها غبارٌ يثور في وجه القلب، فلا يُبصر من الحق إلا شُعاعًا متذبذبًا! وما أكثر الكلمات التي تُلقى في سمع المرأة، كلماتٌ في ظاهرها الهدى، وفي باطنها الحيرة: المؤثرة، الصانعة للأجيال، المصلحة… ألفُ لقبٍ ولقب، يرمون بها معنى واحدًا لو استقام في القلب لكفى عن الدنيا وما فيها.
كنتُ ذات مساء أقف عند هذه المعاني، وقوف المتحيّرة على بابٍ مُغلق، لا أدري من أين أطرقه، علاوةً على أن أجد مفتاحه. وقد ساقتني الحيرة إلى سؤالٍ بدا لي آنذاك أعظم من كل الأسئلة: كيف تكون المرأة المسلمة نافعةً لأمتها، باقية الأثر، ممتدة الظلّ إلى اليوم الذي نقف فيه بين يدي الله؟
كان لمعنى صناعة الأثر بريقٌ يأسرني؛ بريقٌ ينفذ إلى عقلي كما ينفذ النور في العين، لا تملك له دفعًا. غير أنّي كلما هممتُ ببدء الطريق، ظهرت أمامي أسئلةٌ ملحة: من أين أبدأ الإصلاح؟ هل أبدأ من الأخلاق، أم من تصحيح صورة المرأة، أم من إحياء القراءة بوصفها سلّم النهضة؟ فتتبدد الساعات في التفكير كما يتبدد النسيم في فضاءٍ لا يحدّه جدار.
حتى بلغتُ تلك الآية التي جعلها الله مفتاحًا لما أُغلِق عليّ: “لا يُكلّفُ الله نفسًا إلا وسعها”.
وقفتُ عندها وقفةَ الظامئ على شفير الماء، يطيل النظر كأنه يرتوي بعينيه قبل أن ينهل. رددتُها… وأعدتُها… حتى وقع في قلبي منها ما يشبه الكشف.
قلت: ما الوسع؟ هل هو تلك القدرة المتخيّلة التي نبني عليها أحلامًا شاهقة؟ أم هو القدرة الحقيقية التي يعرفها الله منا، ونتجاهلها نحن لأننا نفتن بالمستحيل ونزهد في الممكن؟
عدتُ إلى ما قاله أهل اللغة: “الوُسعُ ما يقدر عليه الإنسان ولا يعجز عنه”.
عبارة قصيرة، لكنها تسع العمر كله.
تأملتُها طويلاً، وفهمتُ أن الناس غالبًا يُحاسبون أنفسهم على ما يتخيّلون أنهم قادرون عليه، بينما الله لا يحاسب إلا على ما يقدرون عليه حقًا. فكم من رحمةٍ أنزلها الله على عبده بهذا المعنى الجليل!
حينها سقط عن قلبي جدارٌ كثيف من الوهم. لم يعد الطريق طريق الجبال التي كنتُ أحسب أن عليّ حملها، بل صار طريق الخطوات الصغيرة التي يعرفها الله ويباركها، ولو خفيت عن الناس.
وكما قال صلى الله عليه وسلم: (خير الأعمال أدومها وإن قل)
أدركتُ أن التكليف ليس ثِقلاً يُرمى على الظهر، بل طاقةً تُوجَّه نحو الفعل المقدور عليه.
ومن أعجب ما اكتشفته في نفسي أنّ العجز الذي كنت أحسبه صدقًا في ضعفي، لم يكن في كثيرٍ من الأحيان إلا حيلة نفسية بارعة تنسجها النفس لتستريح من تعب التكليف.
فتلوذ بالأمور العظيمة لتستتر بها، كأنما تُقيم من ادّعائها جدارًا تُخفي وراءه ضآلة الهمة وضيق العزم.
فإذا طالبتَها بأثر تُخلّفه، أو خير تقدم عليه، قالت: “ذلك شأن العظماء، ولستُ منهم”، وهي في الحقيقة تهرب من خطوة واحدة تستطيعها في بيتها، أو بين أهلها، أو مجتمعها أو حتى في نفسها.
هذه الحيلة – ولو لبست ثوب النية الطيبة – ليست إلا ستارًا يخفي خوف مواجهة الواجب القريب، بحجة أن الأماني بعيدة المنال..
فالنفس قد توهمك بالعجز، لا لأنها ضعيفة، بل لأنها لا ترغب في دفع الثمن؛ فتزهد في العمل الصغير لأنه لا يُرضي غرورها، وتطمع في الكبير لأنه يعفيها من المشي على الأرض خطوة بعد خطوة.
فإذا انكشف هذا الحجاب، سقطت عن القلب تلك الحيل المقنعة التي يخدع بها المرء نفسه.
وحين يستقر هذا المعنى، تتبدّل نظرتك للكثير من الأشياء من حولك: لم تعد الأعمال الصغيرة صغيرة، ولم يعد المعروف في الإحسان لأهلك أو برّك لوالديك هينًا. لم يعد الامتناع عن الغيبة أمرًا عابرًا، صار لكل فعل وزنه، ولكل بادرة منزلتها؛ لأن الله تعالى ينظر إلى صدق القلب لا إلى حجم العمل.
فسألتُ نفسي: أأستطيع أن أتعلم خُلُقًا نبويًا وأبلغه لغيري؟ نعم.
أأقدر أن أقرأ ثلاثة أحاديث في الأسبوع، أجعلها قطرات نور على مائدة أهلي؟ نعم.
أأستطيع أن أقول كلمة حق، أن أنهى عن منكر، أن أصون مجلسًا من نميمة، أن أمد يدًا لضعيف أو أساعد مُتعب؟ نعم… وكل هذا من الوسع.
وتعلمتُ أن الله لا يسألنا عن صدى فعلنا في الأرض، بل عن صدقه في القلب.
وأن الطريق إلى نفع الأمة لا يبدأ من أعالي الجبال، بل من الخطوة الأولى التي تحت قدميك.
وما دمت أفعل ما في وسعي، فقد أطعت الأمر الإلهي، وما دمت أطرق باب الخير بما أستطيع، فقد كتبت لنفسي أثرًا.
فيا من تسألين نفسك: كيف أكون نافعةً لأمتي؟ قولي لنفسك كما أقول لنفسي: افعلي ما تستطيعين…
فإن الله لا يريد منك غير ذلك.
إزرعي ما تقدرين عليه… فإن الله يبارك في البذرة كما يبارك في الشجرة.
تقدّمي خطوة وإن صغُرت… فإن الخطوة الصادقة أثقل عند الله من جبلٍ من الأماني.
وهكذا يصبح الوسع نورًا يهدي، وطريقًا يجمع شتاتك: إن الله لا يطلب منك إلا ما وهبك من قدرة، فاعملي بها… وابدئي من حيث أنت، وافعلي ما تستطيعين، فإن كل خطوة صادقة لها أثر يبقى، ولو خفي عن الأبصار.


















اترك تعليقاً
يجب أن تكون مسجل الدخول لنشر التعليق.