بقلم: محمد خليفة.
سار الإسلام بالفكر البشري خطوات إلى الأمام منتقلاً من رفض تعدد الآلهة إلى نفي تعدد الآلهة على مستوى العقيدة، وجاعلاً للعقل حدودًا ظهرت فوائدها في كمال الشريعة المستنبطة بالوحي والعقل معًا مقارنة بالشريعة المستنبطة بالعقل وحده، أو ما يسمى “القانون الوضعي” هذه الأيام.
أولاً. كمال العقيدة.
- الانتقال من رفض تعدد الآلهة إلى نفي تعدد الآلهة.
بين رفض العقل لفكرة تعدد الآلهة وبناء نظام كامل على نفي تعدد الآلهة مسافة زمنية تزيد على ألف سنة! رفض تعدد الآلهة ظهر عند الإغريق خمسة قرون قبل الميلاد، أما بناء نظام وحضارة على نفي تعدد الآلهة فلم يبدأ إلا مع ظهور الإسلام في القرن السابع الميلادي.
- رفض تعدد الآلهة.
خارج دائرة الوحي عرف الإغريق رفض تعدد الآلهة في فلسفة زينوفانس (570-480 ق. م). وقد تمثل موقف زينوفانس في الاعتقاد بضرورة أن يكون فوق كل الآلهة والبشر إله واحد كامل ومنزه عن كل نقص. كان اعتقاد زينوفانس هذا مجرد موقف فكري لا يُلزم أحدًا ولا ينبني عليه موقف اجتماعي أو سياسي.
وكان هذا الموقف بداية صراع بين القائلين بالواحد والقائلين بالكثرة من الإغريق. وبعد قرن ونيف من الزمان كانت الغلبة للقائلين بالواحد، وهم سقراط وأفلاطون وأرسطو، لكن هؤلاء تخبلوا في “وحدة الوجود”، وظل الوضع كذلك حتى ظهر الإسلام في القرن السابع الميلادي.
وبظهور الإسلام تحول الرفض لتعدد الآلهة إلى نفي لتعدد الآلهة. وبذا تحول الموقف الرافض لتعدد الآلهة من مجرد مقترح فلسفي عند الاغريق إلى أساس لنظام عالمي جديد لا يجعل مع الله إله آخر ويبني حضارة تمتد بين الهند والأندلس.
البدء بنفي تعدد الآلهة هو أول شرط لدخول الإسلام، فالوحي باعتباره المصدر الأول لعقيدة وشريعة المسلمين لا يتسامح مع تعدد الآلهة: “إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء“. وما سلف هو منجز الوحي في آخر مرحلة من مراحله (القرآن) الذي انتقل بالفكر البشري إلى نبذ الشرك بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
- نفي تعدد الآلهة.
من لم ينفِ تعدد الآلهة لا يُعد مسلمًا. إذ كان أبو جهل وأبو لهب يؤمنان بالله مع رفض التنازل عن آلهة العرب، ولذا كان الخيار أمامهما إما الكفر بالطاغوت (أصنام العرب) واتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وإما الكفر بالنبي وما أنزل عليه للجمع بين الايمان بالله والايمان بآلهة العرب. اختار أبو جهل وأبو لهب الكفر بمحمد وبما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم، لأنه السبيل الوحيد للاحتفاظ بآلهة العرب، وبذا كان إيمانهما بالله غير ذي جدوى لأنه فاقد لشرط الفعالية (الكفر بالطاغوت): “فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم“.
ب التوحيد منتهى الحكمة.
مثلما نفى القرآن تعدد الآلهة نفى ألوهية العقل، إلا أن ما جاء تصريحًا بخصوص الأصنام جاء تلميحًا بخصوص العقل، واستقراء القرآن الكريم بالخصوص يفيد ذلك.
- نفي ألوهية العقل.
المجال لا يتسع هنا لتبيان نفي ألوهية العقل بالتفصيل، ولكن يكفي أن نشير إلى أن كلمتي “عقل” و”عاقل” (أي الاسم والصفة) لا تردان في القرآن الذي يكتفي بالفعل “تعقلون” و”يعقلون”! ثم يصف أهل رجاحة العقل بأوصاف من قبيل “أولى النهى” و”أولي الألباب” في تحاشيًا مقصودًا لمصطلحي “العقل” و”عاقل”!
على الجانب العملي تعد شعائر الحج من دلائل نفي ألوهية العقل في نظري، ولذا يصف القرآن تعظيمها على أنه من تقوى القلوب، لأن الذين يؤلهون العقل (من أمثال سيد القمني) يعلنون استغرابهم لطواف المسلمين حول الكعبة وهي حجر، ورمي الجمرات وهي حجر! فهذا حجر وذاك حجر فكيف يطوف العاقل بهذا ويرجم ذاك؟ شعائر الحج لا يقوم بها إلا من نفى ألوهية العقل وعبد الله وحده واتبع آخر رسله في القول والعمل.
من جانب آخر، وفي زمن الحداثة تحديدًا، أكتشف بعض أكابر المفكرين الأوربيين أن العقل قد يكون مجرد عاكس للهوى الذي يفسد نشاط العقل البشري. وأنا اتحدث هنا عن جان جاك روسو الذي تسأل بحسرة: “ما الفائدة في أن ينيرنا العقل إذا كان الهوى هو الذي يقودنا؟”. وسأعود لدور الوحي في ضبط العقل في حقل التشريع، بعد أن أبين كيف انتهى أهل العقل إلى أن الوحي هو منتهى الحكمة.
2) الوحي منتهى الحكمة.
يقول ابن رشد: “لم تزل الحكمة أمرًا موجودًا في أهل الوحي وهم الأنبياء عليهم السلام، ولذلك أصدق كل قضية هي أن كل نبي حكيم وليس كل حكيم نبي“. وفي هذا السياق من الطبيعي أن يتبع الحكماء الأنبياء، وبالخصوص يضيف أبن رشد: “ولذلك أسلم الحكماء الذين كانوا يعلمون الناس في الإسكندرية لما وصلتهم شريعة الإسلام، وتنصر الحكماء الذين كانوا ببلاد الروم لما وصلتهم شريعة عيسى عليه السلام“.
وحيث لم يذكر ابن رشد شواهد وأمثلة، أخذت على عاتقي البحث عن مثل أولائك الحكماء الذين استجابوا لرسالة السماء واتبعوا شريعة المسلمين فوجدت منهم اثنين؛ الأول هو عبد الملك بن أبجر الكناني الذي أسلم على يدي عمر بن عبد العزيز أيام كان والده عبد العزيز بن مروان واليًا على مصر، والثاني هو ابن جرير بن رَّبن الطبري الذي كتب كتابًا وأهداه للمتوكل، وكان عنوانه “الدين والدولة في اثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم“.
كان ابن رَّبن فارسي الأصل ومن أهل الكتاب، وقد تقررت لديه وحدة الوحي فكتب “إني لما وقفت على ما في التوراة والإنجيل وسائر كتب الأنبياء من البشارات بنبوة محمد ﷺ، ورأيت أكثر الناس معرضين عنها، أحببت أن أجمع من ذلك ما تيسر لي، ليكون دليلاً لمن أنصف، وحجةً على من خالف.“
وبعد النقل ينتقل ابن رَّبن إلى العقل فيقرر: “ومن أعجب الدلائل على صدق نبوته ﷺ أنه قام وحده في وجه الدنيا… فآمن به قوم، وحاربه آخرون، فغلبهم بالحجة والسيف، حتى دانت له الملوك، وخضعت له الأمم، ولو لم يكن مؤيدًا من الله ما تمّ له ذلك.”
ثانيًا. كمال الشريعة.
وفي مجال كمال الشريعة يقرر ابن رشد ان: “كل شريعة كانت بالوحي فالعقل يخالطها، ومن سلم أنه يمكن أن تكون ها هنا شريعة بالعقل وحده فإنه يلزم ضرورة أن تكون أنقص من الشرائع التي استنبطت بالعقل والوحي“. وبالرغم من أن هذا الكلام قد كُتب قبل ثمانية قرون إلا أن دارسوا القانون الوضعي (وهو المستنبط بالعقل وحده) يطلعون الآن على نقصه ومناطق الفراغ التي تظهر في نطاق تطبيقه، من حين إلى آخر.
هذه الحقائق ظهرت في مجال الفكر النظري أولاً إذ يقرر جان جاك روسو أن ” المشكلة الكبرى في السياسة، والتي أشبهها بمحاولة جعل الدائرة تأخذ شكل المربع هندسيًا.. هي إيجاد شكل من أشكال الحكومة التي تضع القانون فوق الإنسان”!
هذه المشكلة لا وجود لها في مجال الشريعة -على المستوى النظري على الأقل- لأن مصدر الشريعة سماوي، وهو ما يسمى النقل عند المسلمين. والنقل لا يقع فوق الإنسان وحسب، بل يبين له الحدود التي لا ينبغي تجاوزها وإلا انقلبت الحرية إلى عبث وفوضى. وبهذا الخصوص يقول الشاطبي: “لو جاز للعقل تخطي ما حده النقل، لم يكن للحد الذي حدَّه النقل فائدة، لأن الفرض أنه حدَّ له حدّاً، فإذا جاز تعديه صار الحدُّ غير مفيد، وذلك في الشريعة باطل فما أدى إليه مثله“.
والسؤال الآن هو: ما هي الحدود التي حدها النقل للعقل؟
الإجابة نجدها في حديث عظيم يقول فيه صلى الله عليه وسلم: “إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها“! في هذا الحديث باب الاجتهاد مفتوح فيما سكت عنه النقل، ولا اجتهاد فيما وراء ذلك من فرائض وحرمات أو حدود.
هذا هو الأساس الذي يمكن أن يتكامل فيه العقل والنقل، وهذا هو الأساس الذي يضع الخط الفاصل بين الحرية والفوضى، وهذا هو الأساس الذي تتكامل عليه العقيدة والعبادة لتحقيق الفضيلة الناشئة عن اتباع الأنبياء وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم.
وبخصوص ما سلف يقرر ابن رشد أن “الحكماء بأجمعهم يرون…أن يتقلد من الأنبياء والواضعين مبادئ العمل والسنن المشروعة… والممدوح عندهم هو ما كان منها أحث للجمهور على الأعمال الفاضلة حتى يكون الناشئون عليها أتم فضيلة من الناشئين على غيرها، مثل كون الصلوات عندنا، فإنه لا يشك في أن الصلوات تنهى عن الفحشاء والمنكر كما قال تعالى. وأن الصلاة الموضوعة في هذه الشريعة يوجد فيها هذا الفعل أتم منه في سائر الصلوات الموضوعة في سائر الشرائع. وذلك بما شرط في عددها وأوقاتها وأذكارها وسائر ما شرط فيها من الطهارة ومن التروك، أعني ترك الأفعال والأقوال المفسدة لها“.
على مستوى العقيدة انتقل الإسلام بالبشر من رفض تعدد الآلهة إلى نفي تعدد الآلهة، وعلى مستوى العبادة كانت صلاة المسلمين أتم من غيرها، والناشئون عليها أتم فضيلة من الناشئين على غيرها. هذا هو مختصر التقدم الذي حققه الإسلام في حقلي العقيدة والعبادة. وبهذا التقدم بنى الإسلام حضارة شهد لها الكافر (نيتشه) بأنها أكثر تقدمًا من الحضارة الأوربية في أيامه (نهاية القرن التاسع عشر).
واليوم تبدو البشرية في أمس الحاجة إلى الإسلام وفهمه فهمًا جديدًا يسير بالمسلمين وغير المسلمين إلى الأمام. وقد وضع العالم قدمه على هذا الطريق مع غزة ومنجزها الأسطوري، فأكبر عمل دعوي في بداية الألفية الثالثة هو صمود غزة في وجه الابادة، غير أن أكثر الناس لا يعلمون أن هذه الخطوة -التي تكلفت ثمنًا باهضًا- ستتبعها خطوات، فأول الغيث قطرة ثم ينهمر.


















اترك تعليقاً
يجب أن تكون مسجل الدخول لنشر التعليق.