بقلم: د. نجاح بن زايد.
يعيش عالمنا المعاصر قلقًا وجوديًا عميقًا، يتأرجح فيه الإنسان بين عبودية التقنية ومنطق السوق من جهة، وبين حنينه إلى القيم والكرامة من جهة أخرى. ومن قلب هذا الاضطراب برزت سردية المليار الذهبي، والتي تقوم على تصور مفاده أن كوكب الأرض لا يستطيع تحمّل أكثر من مليار إنسان من ذوي الكفاءة والإنتاجية العالية، بينما يُعدّ سائر البشر عبئًا على موارد الكوكب، بل خطرًا على توازنه البيئي.
هذا الخطاب الذي يتخفّى وراء المظهر العقلاني والعلمي لا يخفي جذوره القديمة؛ فهو إعادة إنتاج حديثة لنزعات التمييز والاستعباد التي تظهر اليوم بثوب التخطيط العلمي والتنمية المستدامة. إنها فلسفة تجمع بين وهم العلم وتغوّل السلطة، وتختزل الإنسان في مجرد رقم داخل معادلة، وتُفرغ الوجود من روحه.
ولعل المتتبع للتاريخ سيلاحظ كيف تمتد جذور هذه الفكرة إلى أول صراع بشري، بين قابيل وهابيل، حين سال أول دمٍ بشري بدافع الحسد والتميّز. ومنذ ذلك الحين ظلّ السؤال الفلسفي مطروحًا: من يستحق الحياة؟
الجذور الفكرية للسردية:
تعود جذور هذه الفكرة الحديثة إلى القرن التاسع عشر، وتحديدًا مع أطروحة توماس مالتوس حول الانفجار السكاني، التي رأت أن زيادة عدد البشر ستقود إلى المجاعات والكوارث، مما يستوجب ضرورة الحدّ من النمو السكاني ولو على حساب فئات بعينها. ومن هنا وُلد منطق الندرة والخوف، الذي حوّل الإنسان من غاية إلى وسيلة، ومن كائن ذي قيمة إلى مجرد عنصر في معادلة اقتصادية جامدة.
وجدت هذه الرؤية طريقها إلى النظريات العنصرية والاستعمارية التي مجّدت العرق الأبيض واعتبرت تفوّقه حقًا طبيعيًا في الهيمنة، أما أكثر الصور مأساوية لهذا الطرح فقد تجسدت لاحقًا في النازية التي سعت إلى تنقية البشرية وحولت فكرة الاختزال البشري إلى أداة أيديولوجية لتبرير الإبادة والسيطرة.
وفي عصر العولمة، أُعيد طرح الفكرة نفسها بوجه جديد عبر خطابات التنمية والحوكمة والأمن البيئي، واصبحت حياة البشر تدار بمنطق التقنية والإدارة الذكية للسكان. لم تعد السيطرة بالسلاح، بل بالمعرفة والخوارزميات والسياسات السكانية المموّهة، فيما تُخضع القيم الإنسانية العميقة لحسابات الجدوى والإنتاجية.
الجدير بالذكر هنا أن هذه السردية التقت مع ما عُرف في القرن التاسع عشر بـ الداروينية الاجتماعية، التي نقلت مبدأ البقاء للأصلح من الطبيعة إلى الاجتماع البشري، مبرّرة الفقر والتفاوت والهيمنة باعتبارها نتائج طبيعية للتطوّر.
اليوم تعود الفكرة في صورة الإنسان الفائق أو المعزّز تقنيًا، حيث يُحتفى بالكائن المتفوّق رقميًا وبيولوجيًا، بينما يُقصى مَن لا يملك أدوات التقنية من دائرة الاعتراف والجدارة.
هكذا انتقلت النزعة الانتقائية من البيولوجيا إلى التكنولوجيا، ومن الانتقاء الجسدي إلى الانتقاء الرمزي عبر الخوارزميات وأسواق العمل وأنظمة الذكاء الاصطناعي تحوّل الإنسان إلى وحدة إنتاج وتقييم رقمي لا مكان فيها للروح أو المعنى.
الرؤية الدينية في مواجهة المنطق الأداتي:
في مواجهة هذا المنطق البارد، تبرز الرؤى الدينية الكبرى كدرع أخلاقي يحفظ جوهر الإنسان.
فالإسلام يؤكد على كرامة الإنسان في قوله تعالى: «ولقد كرّمنا بني آدم» (الإسراء: 70)، أي إن الكرامة سابقة على الفعل والإنتاج. كما يرفض منطق الندرة والخوف في قوله: «ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم» (الإسراء: 31).
بينما المسيحية ترى في الإنسان موضع المحبة الإلهية، فالكرامة تُمنح بالمحبة ولا تُكتسب بالإنتاج. حتى الفكر اليهودي، رغم خصوصيته، يمنح الإنسان طابعًا قدسيًا لا يمكن اختزاله في معايير اقتصادية أو تقنية.
تقف سردية المليار موقف النقيض في مواجهة التصور الإيماني لكرامة الإنسان، لأنها تفصل بين الإنسان وقيمته، وتختزل الحياة في امتياز تمنحه النخبة لمن تشاء.
الموقف الفلسفي من السردية:
من المنظور الفلسفي، تصطدم هذه السردية بمبدأ جوهري صاغه إيمانويل كانط حين قال: “يجب أن يُعامل الإنسان دائمًا كغاية في ذاته، لا كوسيلة لغاية أخرى.”
فعندما يصبح الوجود الإنساني مشروطًا بالكفاءة الاقتصادية أو التقنية، تنهار الفلسفة الأخلاقية من أساسها، وفي ذات السياق حذّرت حنا أرندت من الأنظمة التي تُفرغ السياسة من معناها الأخلاقي وتحول الإنسان إلى رقم في منظومة بيروقراطية عمياء أما هنري برغسون فقد رأى أن الحياة اندفاع روحي خلاق لا يُقاس بالكمّ ولا يُختزل في المنفعة، مؤكّدًا أن جوهر الإنسان في الإبداع وليس في الجدوى.
الفلسفة ببساطة ترى في الإنسان مشروعًا للحرية والمعنى، وليس مجرد كائن يُقاس إنتاجه أو يُصنّف وفق مقاييس السوق. وهو مايؤكد لنا أن نقد سردية المليار هو ضرورة أخلاقية مُلحة.
نحو بديل إنساني عادل:
يقدّم الخطاب الإنساني المستلهم من القيم الدينية والفكرية والفلسفية بديلًا جذريًا، يقوم على إعادة الاعتبار للإنسان ككائنٍ معنوي وروحي قادرٍ على إعمار الأرض، وليس على تقليص وجوده فيها. فالوجود البشري، كما يقول تعالى: «الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملًا» (الملك: 2) قائم على الفعل الأخلاقي لا على الإنتاج المادي وقد أكّد مالك بن نبي أن النهضة لا تبدأ بتقليص البشر، بل بإحياء قدرتهم على المعنى والفعل، بينما دعا طه عبد الرحمن إلى الائتمانية كمنهج يجعل الإنسان مسؤولًا عن نفسه وعن غيره في آنٍ واحد، في مواجهة الأنانية التقنية التي تحكم العالم المعاصر. أما عبد الجبار الرفاعي فطرح رؤية تجعل الرحمة والعدل والكرامة أساس العلاقة بين الإنسان والآخر، بديلاً عن الخوف والهيمنة.
تلك المشاريع، وغيرها مما لا يتسع المجال لذكرها هنا، تفتح الآفاق لتأسيس عالم أكثر عدلًا، لا يقوم على تقليص البشر، بل على تفكيك البُنى الظالمة التي صنعت الحاجة إلى الانتقاء أصلًا.


















اترك تعليقاً
يجب أن تكون مسجل الدخول لنشر التعليق.