بقلم: محمد العوامي.
《ميزان الحق لا ميزان العدد》
﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾،
﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾
(سبأ: 13 – الأنعام: 116)
حين يصحّ الميزان
في زمنٍ تُقاس فيه القيمةُ بالعدد، وتُقاس فيه المكانةُ بالمتابعين والمشاهدات، ينهض القرآن الكريم ليضع ميزانًا آخر للحقّ، ميزانًا لا يزن بالكثرة، بل بالصدق والجوهر.
إنه الميزان الإلهي الذي يكشف عن المقابلة بين “الكثرة المضلّة” و “القلّة الصانعة”، ليعلّمنا أن العدد لا يدل على الصواب، وأن الجماهيرية ليست برهانًا على الحق، بل قد تكون ستارًا يخفي الغفلة والضلال.
أولاً: الكثرة في ميزان القرآن تحذير من وهم الأغلبية:
يرسم القرآن صورة دقيقة لحال الكثرة حين تُغرقها الغفلة، فتكاد تكون الكثرة في الكتاب العزيز عنوانًا للضلال، أو الغفلة، أو الجحود.
- الكثرة المضلّة التابعة للظنّ
يقول الله تعالى:
﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ (الأنعام: 116)
هذه الآية تحسم قضية “سلطة الجماهير”؛ فالحق لا يُعرف بالكثرة، بل بالدليل والبرهان.
قال ابن كثير رحمه الله: «يُخبر تعالى عن حال أكثر أهل الأرض من بني آدم أنهم ضُلاّل، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ﴾، وفي الآية تنبيه على أن الحق لا يُعرف بكثرة أهله، بل بما قام عليه الدليل.»
- الكثرة الجاهلة والغافلة
يقول الله تعالى في مواضع كثيرة:
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: 21)
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ (يوسف: 68)
الكثرة هنا ليست رقمًا فحسب، بل حالةٌ من السطحية والعجلة واتباع الهوى، تعيش في الظاهر وتغفل عن البصيرة.
قال السعدي رحمه الله: «قلّ من الناس من يتفكر في نعم الله، فيقوده ذلك إلى الشكر، وأكثرهم في غفلة عنها.»
- الكثرة الرافضة للحق
ويقول الله تعالى:
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾ (المؤمنون: 70)
إنها كثرة لا تجهل الحق فقط، بل تضيق به صدرًا وتشمئز منه، فهي ليست كثرة الباحثين عن الهداية، بل كثرة الممانعين للحق خوفًا على المصالح والمناصب.
ثانيًا: القلّة في المنظور القرآني — معيار الإيمان والصنع والثبات
في المقابل، يرفع القرآن شأن القلة المؤمنة، فيجعلها رمزًا للصفاء والصدق والفاعلية.
إنها “القلّة الصانعة” التي تغيّر مجرى التاريخ بثباتها وصبرها وإخلاصها.
- القلة الشاكرة والمصطفاة
يقول الله تعالى:
﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ (سبأ: 13)
هذه القلة ليست عاجزة ولا معزولة، بل هي القلة الواعية التي تدرك قيمة النعمة ومسؤولية الشكر.
وقد رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «اللهم اجعلني من القليل»، أي من هذه القلة الشاكرة.
وقال الإمام الشافعي: «اشتغلتُ بالعلم لأكون من القلة التي تُدرك الحقيقة.»
- القلة الثابتة والمنتصرة
القرآن لا يربط النصر بالعدد، بل بالإيمان والصبر، كما في قوله تعالى:
﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة: 249)
هذه هي سنة الله في الكون: النصر مع الصبر لا مع الكثرة، والتمكين مع الإيمان لا مع الأعداد.
وقد جسّد النبي ﷺ ذلك في بدر حين غلبت القلة المؤمنة كثرة الكافرين بإذن الله.
- القلة الناجية في الآخرة
النجاة يوم القيامة لا تكون بالكثرة، بل بمن اختار طريق الإيمان الصادق.
قال النبي ﷺ:
«يقول الله: يا آدم، أخرج بعث النار، فيقول: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين» (رواه البخاري).
إنه تحذير عظيم من الاغترار بالكثرة، وتأكيد أن طريق النجاة ضيّق، لا يسلكه إلا من ثبت على الحق رغم قِلّته.
ثالثًا: من الكثرة الغافلة إلى القلة العاملة
إذا كانت الكثرة في القرآن عنوانًا للغفلة، والقلّة عنوانًا للبصيرة، فإن التحدي الحقيقي هو:
كيف نتحول من “كثرةٍ عاطلة” إلى “قلّةٍ عاملة”؟
- تصفية النية (الإخلاص)
﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ (البينة: 5)
الإخلاص يحوّل العمل القليل إلى أثرٍ عظيم، ويجعل من الجهد المحدود بركة ممتدة.
إنها القلة التي تعمل لله، لا لمديح الناس ولا لتصفيق الجماهير.
- تعميق التكوين (الجودة والإتقان)
﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ (السجدة: 7)
القلة الصانعة لا تكثر من القول، بل تُتقن الفعل؛ تزرع عمقًا لا ضجيجًا، وتبني أثرًا يبقى بعد رحيلها.
- الثبات والممانعة
﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ (هود: 112)
الثبات على المبدأ هو ما يميز القلة عن الكثرة، فالأولى تصمد عند المحن، بينما الثانية تتبدد مع أول اختبار.
إنها قلة تحفظ توازن الأمة وتدفع مسيرتها في وجه الرياح.
- حين يصحّ الميزان
في عالمٍ يُخدع بالبهرجة العددية، يذكّرنا القرآن أن ميزان الله ليس كمًّا يُحصى، بل نورًا يُهتدى به؛ وأن القلّة العاملة – وإن خفت صوتها – هي التي تصنع المستقبل بإذن الله.
فلنكن من تلك القلة الصانعة، نعمل بصمتٍ وإخلاص، نزرع حقًا لا ضجيجًا، ونجعل انتماءنا للحق لا للعدد، وللجوهر لا للمظهر.
اللهم اجعلنا من عبادك القليل الذين يشكرون، ويصبرون، ويثبتون،
ولا تجعلنا من الكثرة الغافلة عن ذكرك، المبهورة بزخرف الدنيا.




















اترك تعليقاً
يجب أن تكون مسجل الدخول لنشر التعليق.