- مقال بعنوان: (( إله الحرية ))
- بقلم: محمد خليفة.
العقل في تعريف جورج طرابيشي “هو إله الفلاسفة الذي يريدونه بقوة العقل ملزمًا للجميع بالتعارض مع إله الدين الذي لا يُلزم إلا أتباعه”. هذه شهادة إنسان غير مسلم بإن إله الحرية هو إله الدين وليس إله الفلاسفة.
ـــ ويبقى السؤال أي دين؟
معلوم “إن الدين عند الله الإسلام”، غير أن هذا الدين أصابته لوثة إله الفلاسفة وهو في عز شبابه (العصر العباسي)، إذ كان المعتزلة أئمة العقلانية في الحضارة الإسلامية وكان على رأسهم سابع خلفاء بنى العباس، وهو المأمون بن هارون الرشيد (170-218 هـ).
بصفته الخليفة؛ حكّم المأمون عقله وصادر حرية الفكر عندما أجبر العلماء على القول بخلق القرآن، فكان ابن حنبل في مستوى المسؤولية العلمية، ولا سيما عندما قيل له وافق الخليفة تقيةً فقال: “إذا كان العالم يفتي تقيةً والجاهل يجهل فمتى يتبين الحق؟!” وبالرغم من أن الطبري لا يعتبر ابن حنبل من الفقهاء، إلا أن موقفه الرافض لرأي المعتزلة وعلى رأسهم الخليفة قد جعل منه بطلاً.
لقد كانت القضية في جوهرها أن الخليفة لا يملك فرض رأيه في مسألة تقبل أكثر من رأي ــــ هذه هي الحرية في دين لا يجعل مع الله إله آخر. وفي سبيل ترسيخ هذه الحرية كاد ابن حنبل يفقد حياته لأنه وضع الحرية فوق واجب الطاعة للأمير. وقد امتُحن أبو حنيفة ومالك في قضايا شرعية أخرى مشابهة أو أكثر أهمية، وعُذبوا لأنهم وضعوا الشريعة فوق هوى الحاكم.
وضع القانون فوق هوى الحكام هو ما حلم به ولم يستطع تحقيقه جان جاك روسو، إذ قرر أن تصور نظام سياسي يضع القانون فوق البشر أشبه بجعل الدائرة تأخذ شكل المربع (من المستحيلات)! وهذا موضوع سأعود إليه في فرصة أخرى، لكن يكفي القول إننا عرفنا القانون فوق الحاكم قبل غيرنا لأن مصدر الشريعة (الله) فوق الجميع. وهذه الفوقية تتأثر سلبًا إذا جعلنا من إله الفلاسفة إلهًا آخر!
نفي ألوهية العقل إذن، هي الخطوة الأولى نحو التأسيس لحرية الفكر من جديد، لأن هذا النفي لا يبقي للعاقل من إله إلا الله الذي ضمن حرية العقيدة بمبدأ “لا إكراه في الدين”. هذا هو الإله الذي لا تُلزم شريعته إلا من آمن به وصدق كتابه واتبع آخر رسله (الشارع) صلى الله عليه وسلم. الله هو إله الحرية، وما العذابات التي عاشتها الإنسانية وما زالت تعيشها إلا نتيجة لجعل الهوى إلهًا آخر باسم “العقل”!
ــــ أين ضاع الدين/الإسلام؟ وكيف غابت الحرية؟
لقد صادر معاوية رضي الله عنه السلطة ملغيًا “الشورى” ثم صادر المأمون حرية الكلمة ملغيًا “الرأي”، فأصبح الشأن العام ملكًا عضوضًا وفقد “الرأي العام” سلطته. وقد عُذب الإمام مالك لإفتائه ببطلان بيعة المكره. وبطلان البيعة معناه بطلان الأساس الذي تقوم عليه الدولة في الإسلام. وسار العباسيون في المُلك سيرة بني أمية، وهكذا انتقضت أول عرى الإسلام بزوال الشورى واغتصاب البيعة وهو ما يعني اغتصاب السلطة.
وفي سياق اغتصاب البيعة ضُرب سعيد ابن المسيب، وهو من التابعين، سياطًا من والي عبد الله بن الزبير على المدينة مرة، وضُرب سياطًا مرة أخرى عندما دعى عبد الملك بن مروان إلى بيعة ولديه الوليد وسليمان فقال ابن المسيب انتظروا حتى يجتمع الناس، فعذب لهذا الموقف، وكان يقول “الله بيني وبين من ظلمني”!
تلك البدايات البعيدة قضت قضاءً مبرمًا على حرية الرأي والشورى، وقضت بالتبعية على واجب “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”. وكان إلغاء الإسلام والعمل بالشريعة الإسلامية منتهى المنكر الذي يعتقد الناس أنه جريرة مصطفى كمال الذي ألغى الخلافة رسميًا سنة 1924.
في الواقع، وما يستدعيه الإنصاف، هو القول إن مصطفى كمال قد دق المسمار الأخير في نعش الخلافة التي ماتت عندما ورّث معاوية رضي الله عنه الملك لابنه يزيد. بعبارة أخرى؛ استبعاد خيار الصحابة الذين كانوا أحياء وعلى رأسهم عبد الله بن عمر، وتوريث يزيد لمجرد أنه ابن معاوية ومن البيت الأموي، كان بداية الانحراف الذي ضيع الشورى بدايةً وضيع الإسلام بعد ثلاثة عشر قرنًا.
وفي هذا الموضوع حديثان الأول للنبي عليه الصلاة والسلام يقول فيه: “لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، كلما انتقضت عروة تمسك الناس بالتي تليها، وأولهن نقضًا الحكم وآخرهن الصلاة”. والحديث الآخر لعمر ابن الخطاب وفيه يقول: “إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية”!
يزيد بن معاوية لم يكن من الصحابة، ولم يعرف الجاهلية، لأنه ولد في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه. ولذا كانت توليته بداية انتقاض عرى الإسلام، إذ كان من أشهر إنجازاته ـــ حتى يظل الملك لبني أميةـــ قتل الحسين بن علي وآل بيته في كربلاء، واستباحة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام بعد وقعة الحرة، عندما ثار عليه أهل المدينة لما أظهر من فسوق.
بقت مسألة واحدة وهي الفرق بين الحرية والفوضى؛ فالحرية لها حدود والفوضى لا حدود لها! وقد جمع النبي عليه الصلاة والسلام حدود الحرية في حديث واحد يقول فيه: “إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها”!
إن الباحث المنصف، والإنسان سليم الفطرة، يجد الحرية منظمة في الإسلام. والإسلام ليس دين تنظيم الحرية وحسب بل هو دين التقدم كذلك، أو هو دين التقدم لذلك. والإسلام بحسبه دين التقدم هو موضوع مقالتنا القادمة، فإلى اللقاء، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.




















1 التعليق
ميلود مفتاح على نيته
2025-11-30, 12:08✨ إله الحرية – نقد أدبي للأستاذ محمد خليفة ✨
الرد“العقل إله الفلاسفة… والدين إله الحرية الحقيقي.” بهذه الجملة يبدأ الأستاذ محمد خليفة رحلته الفكرية، ليكشف لنا أن الحرية الحقيقية ليست في ما يهوى العقل البشري، بل في الحق الذي يحميه الإيمان بالله.
من معاوية رضي الله عنه إلى المأمون، ومن ابن حنبل إلى سعيد بن المسيب، يصور الكاتب معارك الحرية والفكر ضد السلطة والهوى، ويثبت أن الشريعة والحق فوق الجميع، وأن الحرية الحقيقية تأتي مع الالتزام بالعدل والحق وليس بالهوى الفردي.
النص تحفة فكرية وبلاغية: يجمع بين التاريخ والفلسفة والدين، بأسلوب راقٍ ونثر عذب، ويترك القارئ في تأمل عميق في طبيعة الحرية والحق والسيادة على النفس والهوى.
“الله هو إله الحرية، وما العذابات التي عاشتها الإنسانية وما زالت، إلا نتيجة جعل الهوى إلهًا باسم العقل.”
🔹 قراءة هذا المقال ليست مجرد متابعة للتاريخ، بل غوص في جوهر الحرية والحق في الإسلام والفكر الإنساني.